فكرتان بمناسبة ذكرى المولد النبوي:
1- في بشرية النبي:
"قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ.. فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا.."
ليس كل كلام النبي (ص) وحيا.. بل كلامه المتعلق بالدين فقط هو الوحي، والباقي من طبيعته البشرية.. ولذلك كان النبي (ص) يجتهد ويخطئ في بعض الأمور المتعلقة بإدارة الشؤون اليومية.. وقد تصدُر منه بعضُ الصغائر لكن لا يُقَرُّ عليها (اعترض القرآن على عدد من تصرفاته).. وعصمته في التبليغ فقط.
وفي الحديث الصحيح عن رافع بن خديج: " قدم نبي الله (ص) المدينة وهم يُأبِّرون النخل، قال: ما تصنعون ؟ قالوا: كنا نصنفه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان أحسن.
فتركوه، فنقصت، فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر." - رواه مسلم.
2- في تفاعل حكماء الجاهلية مع الوحي:
حكماء الجاهلية تفاعلوا مع القرآن، وليس مع أحاديث النبي وكلامه البشري.. ولو كان كلامه الشخصي جزءا من الوحي لكان مدخلا لإيمانهم.. ولكن هذا لم يحصل..
ما حصل هو أنهم تأثروا بالقرآن، باعتباره كلاما غير لم يعتادوا سماعه من البلاغة والفصاحة والشعر..
عن حكيمِ قريش عتبة بن ربيعة، وكان في الثمانين من عمره، أرسلته قريش إلى رسول الله (ص) فقال له: (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمتَ من السَّعَة في العشيرة والمكان في النسب.. وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم.. فاسمع منّي أَعرِضْ عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبلَ منها بعضها).
فقال رسول الله (ص): "قل يا أبا الوليد، أَسمَعْ".
فقال: (يا ابن أخي! إن كنتَ إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا..
وإن كنتَ إنما تريد شرفًا، شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك..
وإن كنتَ تريد مُلكا، ملّكناك علينا..
وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيٌ [أي مسٌّ من الجنّ] تراه ولا تستطيع أن تردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبيب، وبذلنا فيه أموالنا حتى يُبرِئَك منه، فإنه ربّما غلب التابعُ على الرجل حتى يُداوَى منه..
أو لعل هذا الذي يأتي به شعرٌ جاشَ به صدرُك.. وإنّكم لعَمْري يا بَنِي عبد المطلب تَقدِرون منه على ما لا يقدِر عليه أحد !)..
.
حتى إذا سكت عنه، ورسولُ الله (ص) يستمع منه، قال رسول الله (ص): "أفرغت يا أبا الوليد؟"..
قال: (نعم)..
قال: "فاسمع مني"..
قال: (أفعل)..
فقال رسول الله (ص):
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم {1}
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2}
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3}
بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ {4}
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب،ٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5}
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6}
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7}
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون {8}
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9}
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10}
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11}
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12}
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13}.
.
أنصت عتبة، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع، حتى انتهى رسول الله (ص) للسجدة فسجد فيها.
ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك!"..
فقام عتبة إلى أصحابه.. فقال بعضهم لبعض: (نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!)..
فلما جلس إليهم، قالوا: (ما وراءك يا أبا الوليد؟)..
فقال: (والله لقد تعلمون أنّي من أكثر قريش مالاً.. ولكني لمّا قصصتُ عليه القصة، أجابني بشيءٍ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر)؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: "مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود"، ثم قال: (وأمسكتُ بِفِيه وناشدتُه بالرّحِم أن يكفّ.. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب.. فوالله لقد خفتُ أن ينزل بكم العذاب؛ [يعني الصاعقة]..
يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيَّ، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننّ لِقوله الذي سمعتُ نبأٌ! فإن تُصِبه العربُ فقد كُفِيتموه بغيركم، وإنْ يَظهرْ على العرب فمُلكُه مُلكُكُم وعِزُّه عِزُّكم وكنتم أسعدَ الناسِ به)..
قالوا: (سَحرَك والله يا أبا الوليد بلسانه!)..
فقال: (هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم).