2021/10/15

بمناسبة ذكرى المولد النبوي

 فكرتان بمناسبة ذكرى المولد النبوي:


1- في بشرية النبي:


"قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ.. فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا.."


ليس كل كلام النبي (ص) وحيا.. بل كلامه المتعلق بالدين فقط هو الوحي، والباقي من طبيعته البشرية.. ولذلك كان النبي (ص) يجتهد ويخطئ في بعض الأمور المتعلقة بإدارة الشؤون اليومية.. وقد تصدُر منه بعضُ الصغائر لكن لا يُقَرُّ عليها (اعترض القرآن على عدد من تصرفاته).. وعصمته في التبليغ فقط.

وفي الحديث الصحيح عن رافع بن خديج: " قدم نبي الله (ص) المدينة وهم يُأبِّرون النخل، قال: ما تصنعون ؟ قالوا: كنا نصنفه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان أحسن.

فتركوه، فنقصت، فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر." - رواه مسلم.


2- في تفاعل حكماء الجاهلية مع الوحي:


حكماء الجاهلية تفاعلوا مع القرآن، وليس مع أحاديث النبي وكلامه البشري.. ولو كان كلامه الشخصي جزءا من الوحي لكان مدخلا لإيمانهم.. ولكن هذا لم يحصل..

ما حصل هو أنهم تأثروا بالقرآن، باعتباره كلاما غير لم يعتادوا سماعه من البلاغة والفصاحة والشعر..


عن حكيمِ قريش عتبة بن ربيعة، وكان في الثمانين من عمره، أرسلته قريش إلى رسول الله (ص) فقال له: (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمتَ من السَّعَة في العشيرة والمكان في النسب.. وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم.. فاسمع منّي أَعرِضْ عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبلَ منها بعضها).


فقال رسول الله (ص): "قل يا أبا الوليد، أَسمَعْ".


فقال: (يا ابن أخي! إن كنتَ إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا..

وإن كنتَ إنما تريد شرفًا، شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك..

وإن كنتَ تريد مُلكا، ملّكناك علينا..

وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيٌ [أي مسٌّ من الجنّ] تراه ولا تستطيع أن تردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبيب، وبذلنا فيه أموالنا حتى يُبرِئَك منه، فإنه ربّما غلب التابعُ على الرجل حتى يُداوَى منه..

أو لعل هذا الذي يأتي به شعرٌ جاشَ به صدرُك.. وإنّكم لعَمْري يا بَنِي عبد المطلب تَقدِرون منه على ما لا يقدِر عليه أحد !)..

.

حتى إذا سكت عنه، ورسولُ الله (ص) يستمع منه، قال رسول الله (ص): "أفرغت يا أبا الوليد؟"..

قال: (نعم)..


قال: "فاسمع مني"..


قال: (أفعل)..


فقال رسول الله (ص): 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم {1}

تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2}

كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3}

بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ {4}

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب،ٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5}

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6}

الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7}

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون {8}

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9}

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10}

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11}

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12}

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13}.

.

أنصت عتبة، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع، حتى انتهى رسول الله (ص) للسجدة فسجد فيها.


ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك!"..


فقام عتبة إلى أصحابه.. فقال بعضهم لبعض: (نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!)..


فلما جلس إليهم، قالوا: (ما وراءك يا أبا الوليد؟)..


فقال: (والله لقد تعلمون أنّي من أكثر قريش مالاً.. ولكني لمّا قصصتُ عليه القصة، أجابني بشيءٍ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر)؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: "مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود"، ثم قال: (وأمسكتُ بِفِيه وناشدتُه بالرّحِم أن يكفّ.. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب.. فوالله لقد خفتُ أن ينزل بكم العذاب؛ [يعني الصاعقة]..

يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيَّ، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننّ لِقوله الذي سمعتُ نبأٌ! فإن تُصِبه العربُ فقد كُفِيتموه بغيركم، وإنْ يَظهرْ على العرب فمُلكُه مُلكُكُم وعِزُّه عِزُّكم وكنتم أسعدَ الناسِ به)..


قالوا: (سَحرَك والله يا أبا الوليد بلسانه!)..


فقال: (هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم).

2021/05/07

التعددية الثقافية في مجتمع التعدد السياسي

هنا نص مداخلتي في ندوة ثقافية، كنت ضيفها الرئيسي في 18 جويلية 2011، في إحدى دور الثقافة بصفاقس، بحضور عدد من مثقفي الجهة..
التعددية الثقافية في مجتمع التعدد السياسي
محمد بن جماعة*
- 1 -
يتنزل الموضوع الذي أطرحه في هذه المداخلة في إطار الحراك السياسي الذي تشهده البلاد بعد الثورة، والذي أرى أنه سيستمر بقوة في إطار أعمال المجلس التأسيسي الذي نرجو أن يرى النور في شهر أكتوبر القادم.
فكما تعلمون سيكون على رأس مهام هذا المجلس المنتخب صياغة الدستور الجديد وتحديد السلطات في إطار التأسيس لدولة ديموقراطية حديثة. ومن الطبيعي أن يشغل الحديث عن الهوية الوطنية حيزا كبيرا هذه الأيام وفي فترة عمل المجلس التأسيسي القادم، لسببين اثنين يجب استحضارهما في الأذهان:
- السبب الأول: أن (الهوية الوطنية) ليست مجرد حلم غامض أو مفهوم نظري، بل هي أداة سياسية قوية وضرورية لتنظيم الجماعات السياسية وتوحيد الأفراد خلف مشروع الدولة المشتركة. وتعريف (الهوية الوطنية) يمثل المنطلق في تحديد ما يسمى بالعمق الاستراتيجي للدولة في مستوياته الأربعة: مستوى تقوية الشعور بالانتماء والتضامن بين أفراد المجتمع في داخل الدولة، ومستوى توظيف الموروث التاريخي والجغرافي في السياسة الداخلية والخارجية، ومستوى تحديد الأدوات اللازمة لضمان الأمن القومي للدولة، ومستوى البحث عن آفاق تجارية واقتصادية وشبكة علاقات دولية يمكن استثمارها بما يجعل الدولة ذات تأثير دولي في منطقتها.
- السبب الثاني: أن الحديث عن (الهوية الوطنية) يطفو على السطح وتحصل حوله التجاذبات كلما تعرض المجتمع لتغييرات اجتماعية جذرية، وخصوصا بعد الثورات، حيث ترى الأقليات في التغيير فرصة لانتزاع بعض الحقوق أو الضمانات لدعم هوياتها الخصوصية أو على الأقل لحمايتها من الذوبان في إطار الأغلبية.
لذا، فأعتقد أن من الضروري تفهّم الجدل الحاصل في تونس حول الهوية في المستويين السياسي والثقافي. ولكن من الضروري، في نفس الوقت، عدم الانجرار وراء تبسيط هذا الجدل كما يفعل البعض (بحسن نية أو سوء نية).
فنحن بحاجة لفهم الآليات التي تعمل على أساسها الهويات الوطنية:
- أولا: حتى نتمكن من إنشاء نخبة ثقافية وسياسية قادرة على صياغة مشروع وطني تونسي، على أساس الأدوات المتوفرة كالفضاء الجغرافي للدولة، والموروث التاريخي، والهويات المتراكمة والمتزاحمة في هذا الفضاء.
- وثانيا: بغرض البحث عن العناصر الملائمة لإقامة المشروع الوطني.
- وثالثا: حتى نتمكن من تكريس الهوية الوطنية في المؤسسات العامة، مثل نظام التعليم، والمؤسسات الحكومية، ولكن أيضا من خلال المظاهر الأقل ظهورا والتي توجَّه من خلالها الحياة الاجتماعية حتى تصبح الهوية الوطنية أمرا واقعا.
* * * * * * * * * * * *
- 2 -
مفهوم (الهوية الوطنية) يعتبر من المواضيع الشائكة في الدراسات الاجتماعية. وقد حاول عدد من الباحثين، في أوائل الثمانينات، تفكيك هذا المفهوم من خلال التعامل مع (الأمة) على أساس أنها "جماعة متخيلة" (Communauté imaginée)، وأن الإيديولوجيا القومية هي التي تنشئ الأمة، وليس العكس. غير أن بعض الدراسات الأخرى اللاحقة انتقدت هذا "التوجه القومي" في الدراسات الاجتماعية، معتبرة أن من الخطأ اعتبار الأمة خاصية ثابتة لدى الأفراد والجماعات، والتعامل مع الجماعات الإثنية والثقافية داخل الدولة الحديثة على أنها "جماعات متجانسة في داخلها، ومحددة في خارجها بشكل دقيق".
وفي هذا الإطار ظهر في العلوم الاجتماعية مفهوم "التعددية الثقافية" كمفهوم مقابل لمفهوم "القومية"، للتأكيد على أن تعزيز المواطنة على أساس التجانس الثقافي واللغوي (كما هو في الطرح القومي) يتعارض مع الاعتراف بالهويات والثقافات الأخرى التي يمكن أن توجد في نفس المجتمع، ويجعلها عرضة للتهميش أو الاستيعاب..
* * * * * * * * * * * *
- 3 -
يشير مفهوم التعددية الثقافية إلى الحاجات الخاصة لبعض الجماعات نتيجة لبعض سمات الهوية التي يختلفون بها عن الهوية الجماعية الغالبة في المجتمع.. وهذا يعني أن المجتمع يحتاج للتعاطي مع التعددية الثقافية كلما وجدت فيه جماعات وأقليات لغوية أو عرقية أو دينية أو قومية أو إيديولوجية، وطالما سعت هذه الجماعات للحفاظ على خصوصياتها الثقافية، إما عن طريق الحصول على اعتراف من قبل أعضاء الأغلبية، أو عن طريق إنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية مستقلة جزئيا أو كليا عن الأغلبية تساعد في دعم وحماية هذه الخصوصية الثقافية.
وتقوم سياسة التعددية الثقافية على جملة من المقولات، أهمها:
- الاعتراف بالطبيعة التعددية للمجتمع، والوجود السوسيولوجي لمختلف مكونات المجتمع
- رفض سياسة إذابة الثقافات لصالح ثقافة وطنية واحدة
- أولية القضايا الاجتماعية على القضايا الثقافية
- الاعتراف بأن المساواة تتطلب أكثر من أن تكون مساواة شكلية
- التأكيد على القيم الأساسية المتمثلة في الحقوق والحريات الشخصية، والمساواة الفردية
- تسهيل المشاركة الكاملة لجميع المواطنين في الحياة الوطنية من خلال دعم قدرات الأقليات العرقية والثقافية في المشاركة في عمليات القرار الوطني (المشاركة المدنية).
على المستوى العملي، أصبحت سياسة التعددية الثقافية سمة لعدد كبير من بلدان العالم.. وتتفاوت هذه التجارب من حيث النجاح والفشل في تحقيق السلم الاجتماعية. ومن أهم التجارب الناجحة في إدارة التعددية الثقافية: تجارب كندا والدانمارك والنرويج وأستراليا والهند وجنوب أفريقيا وسنغفورة. أما التجارب الفاشلة فأذكر منها (وهذا تقديري الخاص): الصين باعتبار قمعها للأقليات الثقافية والعرقية، والسودان الذي أدى به فشله في إدارة التعددية الثقافية إلى التقسيم في الأسبوع الماضي.
ومن الملاحظ أن التجارب الناجحة في إدارة التعددية الثقافية ارتبطت دائما بالدول ذات المرجعية الأنجلوسكسونية، والتي تعتبر حرية الفرد وكرامته هي محور فلسفتها السياسية، على عكس الدول ذات المرجعية الجمهورية التي تجعل من سلطة الدولة هي محور الفلسفة السياسية.
في التجارب الناجحة للتعددية الثقافية، يتحدد مفهوم الهوية الوطنية على أساس التنوع والتعددية الثقافية، ويقوم (كما في النموذج الكندي، مثلا) على أسس ثلاثة: القيم، والروابط، والثقافة.
1. القيم: تمثل القيم المكون الأساسي في بناء الهوية الوطنية، ويتجسد هذا من خلال القوانين الدستورية، والمواقف الرسمية الحكومية، ومختلف القوانين التشريعية. وفي النموذج الكندي مثلا، تم تحديد القيم الجوهرية للدولة كما يلي: المساواة، العدالة، الإنصاف، المساءلة، احترام التعددية، التضامن المؤدي للمسئولية الجماعية، الاعتماد على الذات.
2. الروابط: تهدف الروابط لإنشاء علاقات إيجابية بين المواطنين، من خلال توفير فضاءات لفهم الاختلافات ومحاولة إيجاد حلول لها، في ظل التنوع السائد في المجتمع.
3. الثقافة: تشكل الثقافة الدعامة الثالثة للهوية الوطنية، لأنها تخلق فضاء للتعبير عن التنوع الموجود، وفرصا لفهم هذا التنوع وقبوله، ولأنها تقول للأفراد إنهم جميعا، بذواتهم وقصصهم وتجاربهم وفنونهم وتاريخهم، على اختلاف ذلك كله، يمثلون جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والهوية المشتركة.
* * * * * * * * * * * *
- 4 -
نأتي الآن للسؤال التالي عن واقعنا في تونس:
هل يوجد تنوع ثقافي في تونس بالشكل الذي يستدعي وضع سياسة لإدارة التعددية الثقافية؟ أم أننا مجتمع متجانس ثقافيا وعرقيا ولغويا ودينيا وإيديولوجيا؟
أعتقد أن إشكالية الجدل القائم حاليا تنبع من محاولة البعض إلغاء أو تقليص قيمة بعض الأبعاد الأساسية للهوية في تونس، ومن محاولة البعض الآخر اختزال الهوية في عدد محدود من أبعادها..
نحن نحتاج للاعتراف بالفوارق الناتجة في إطار المجتمع التونسي والتي تخلق حدودا بين جماعات فرعية في إطار الجماعة الكبرى (أي الوطن). وهذه الفوارق ينشأ بعضها نتيجة للبيئة الثقافية المختلفة بين الجهات، وبعضها الآخر ينشأ نتيجة اختلاف التجارب الشخصية، وتصور الذات، والترتيب الاجتماعي، وتصور المشاعر والسلوك، وأنماط الروابط الاجتماعية، وترتيب المبادئ الأخلاقية، وأنماط التفكير، ووضعية الأقلية والأغلبية، ووضعية الهويات المختلطة أو الهويات الحدودية التي تنشأ من خلال نشأة بعض المواطنين في بلاد أخرى، أو دراستهم بالخارج، وتأثرهم بثقافات أخرى.. كل هذه العوامل تساهم في خلق تنوع ثقافي ملموس يجب أخذه بعين الاعتبار في إطار الدولة، وعدم اختزال الهوية الوطنية في عدد محدود من الأبعاد، بل يجب اعتبار تعدد الهويات في داخل المجتمع عنصر إثراء وليس عنصر تفكيك للتضامن الاجتماعي والوحدة الوطنية.
تحديد أبعاد الهوية التونسية يجب أن يتم بما يخدم العمق الاستراتيجي الذي نحتاج لتحديده للدولة. وكم هنا يمكن أن ندرك خطأ من يريدون إلغاء أو تقليص قيمة البعد العربي والبعد الإسلامي في الهوية التونسية، لأن العروبة والإسلام يشكلان جوهر العمق الاستراتيجي لتونس جغرافيا وتاريخيا وسياسيا. وفي المقابل نحتاج أيضا لاعتبار أبعاد أخرى، مثل وجود تونس في تقاطع بين المغرب العربي والمشرق العربي والذي يعطي خصوصية هامة لتونس. ونحتاج أيضا لاعتبار انتمائنا لحوض المتوسط، وللقارة الإفريقية، وأيضا قربنا الشديد من القارة الأوروبية. كل هذه الأبعاد، وربما غيرها، هامة جدا في تحديد الهوية الوطنية، من الناحية الثقافية. ومن الخطأ إلغاؤها أو تقليص أهميتها.
* * * * * * * * * * * *
- 5 -
ما هي عوامل النجاح والفشل في تجارب التعددية الثقافية؟
1- قد يوجد لدى الأفراد والشعوب المتجانسة عرقيا وثقافيا ودينيا، خوف غريزي أو طبيعي من التنوع والتعدد -ولعل الهويات الوطنية المتجذرة أو تلك التي تجد نفسها في وضعية الأقلية، هي الأكثر قابلية لهذا الخوف-، غير أن كثيرا منهم لا يرغبون في الظهور بمظهر المعادي للآخرين، وبالتالي فتجدهم يسعون للاختفاء وراء مبررات تبدو مقبولة في ظاهرها، وقد يلجأ بعضهم لاختراع أو تضخيم المخاطر الناتجة عن قبولهم، حتى في ظل قلة أو انعدام الأدلة والمؤشرات الدالة على ذلك.
2- من أهم العوامل المؤثرة في قبول سياسة التعددية الثقافية: النظرة للثقافة الدخيلة على المجتمع على أنها تمثل ثقافة يمكن التعايش معها أو لا، وذلك بناء على سلوكيات أفراد هذه الثقافة الدخيلة. فقد يكون من الصعب على بعض المجتمعات أن تتقبل فكرة التعددية الثقافية حين يكون المستفيد منها أقليات ثقافية تحمل تجاه ثقافة الأغلبية (أو المجتمع المستقبِل) نوعا من العداء الثقافي أو الاستعلاء أو الولاء المناقض له.
3- قد يرى البعض في تكريس التعددية الثقافية نوعا من "التلغيم" للمجتمع من خلال توسيع نقاط التماس بين الثقافات المختلفة في داخل الدائرة الواحدة بدل حماية الثقافة الوطنية.
4- يبدو أن نجاح تجربة التعددية الثقافية مرتبط بثلاثة عوامل رئيسية:
- يتمثل الأول في الحريات الثقافية الأساسية الممنوحة للأفراد، وقوانين الحماية ضد التمييز العرقي والديني والثقافي، والقوانين الخاصة بإعفاء الأقليات أو الاعتراف بهم ودعمهم، والتي تمثل أسسا ضرورية لضبط نزعة الأغلبية نحو الاستبداد أو نحو فرض ثقافتها على الأقليات. وبما أن قوة الوازع الأخلاقي لا تكفي لوحدها في واقع السياسة الراهن، فمن الضروري دعم هذه الحقوق بقوة القوانين الدستورية التي لا يمكن مخالفتها، والتي لا يمكن تفسيرها إلا عن طريق المحاكم الدستورية المحمية من تدخل من السلطتين التنفيذية والتشريعية.
- إنشاء المؤسسات والهيئات والبرامج والسياسات العامة التي تضع هذه القيم موضع التطبيق، والتي تسمح بوجود التنوع الثقافي وتحمي التعايش من احتمالات الاحتكاك والتوتر والصراع.
- السياسات التي تصوغ وتدعم الهوية المدنية المشتركة، في سياق ثقافي متنوع.
5- أما عوامل الفشل في مشاريع بناء الهوية الوطنية في ظل التعددية الثقافية، فهي مرتبطة بعدة أسباب أهمها:
- عدم القدرة على إدارة التعددية الثقافية بالشكل الذي يحقق السلم الاجتماعي والانسجام الاجتماعي،
- والتمييز بين الأفراد والجماعات اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا،
- وعدم توفير الحماية اللازمة لحقوق الأفراد والأقليات الوطنية،
- والقمع السياسي.
وأختم المداخلة بالقول إن التحدي الرئيسي للتعددية الثقافية لا يتمثل في تبريرها أو الاستدلال على مشروعيتها، وإنما يتمثل في تحديد درجة وحجم الحقوق والامتيازات التي يمكن إعطاؤها للأقليات الثقافية بدون إفراط أو تفريط.
Like
Comment
Share

2016/06/28

معاناة المتحولين للإسلام داخل الجاليات المسلمة في الغرب

حدثني أحد الأصدقاء الكنديين وكان قسّيسا مسيحيا وأسلم منذ سنوات طويلة، أنه يدخل رمضان هذا العام بحالة نفسية مرهقة كثيرا، نتيجة خيبات الأمل المتكررة فيمن عرفهم من المسلمين، ونتيجة عدم عثوره على أي إطار روحي وديني يوفر له ما يحتاج إليه من الزاد العقلي والروحي والنفسي والاجتماعي.. مما جعل إيمانه يهتز ويضعف لأدنى درجاته..

وحدثني نفس الشخص قبل ذلك باسابيع عن حالات أخرى من الكنديين المتحولين للإسلام في مدينتنا، تخلوا عن الإسلام بعد صدمات كبيرة تعرضوا لها في ممارسة التدين في إطار الجالية..

قلت له: هذا ناتج لعدة اسباب من بينها:

1- ما يعرف في علم النفس بأزمة الأربعين (la crise de la quarantaine) والمتمثلة في تقييم الفرد لماضيه وحاضره ومستقبله، فتبدو له سنوات عمره الماضية وكأنها كابوس ثقيل، ويحد نفسه غير راض عما تحقق فيها، ويشعر أنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلامه على كل المستويات وأنه كان يجري وراء سراب.. حتى المبادئ والقيم التي أسلم وناضل من أجلها تبدو له شيئاً باهتاً، فلم يعد يرى لها القيمة نفسها، ولم يعد متحمساً لشيء ولا مهتماً بأي شيء ذي قيمة في المستقبل.. ويجد نفسه منطفئ الحماس ويكتشف أن الناس لا يستحقون التضحية من أجلهم، وأن المبادئ التي عاش لها لم يعد لها قيمة في هذه الحياة، وأن رفاق الطريق قد تغيروا وأصبحوا يبحثون عن مصالحهم ومكاسبهم بأي شكل وتخلوا عن كل مبادئهم وشعاراتهم التي رفعوها إبان فترة شبابهم، ولم يعد يخفف عنه آلام هذه المشاعر غير الوقوف بخشوع في الصلاة وتلاوة القرآن..

2- إصرار المسلمين المهاجرين والمستقرين بكندا على التمسك بموروثاتهم الثقافية من بلاد العرب والهند وإفريقيا وغيرها، واختلاط التدين بالعادات الثقافية والاجتماعية، مما جعل الكنديين المتحولين للإسلام يعجزون عن التمييز بين التدين وبين العادات الثقافية التي لا يستطيعون التأقلم معها.. باعتبار أن من حقهم هم أيضا التمسك بعاداتهم الثقافية الكندية والحياة بنمط عيش إسلامي متكيف مع ثقافتهم المحلية.

3- فشل المؤسسات والجمعيات الإسلامية عن التأسيس لخطاب إسلامي سليم تنسجم فيه القيم والسلوكيات، ويبتعد عن الأسلوب الوعظي التلقيني البارد، ويتلاءم مع واقع التنوع الإسلامي الذي تتكون منه الجالية المسلمة، ويحفز الأفراد والجماعات على الاندماج والفعل الاجتماعي المتميز..

كل ما يراه هؤلاء المتحولون في واقعنا هو: الاختلاف، والمشاكل، والصراعات المذهبية والفقهية، والحروب، والتطرف والتشدد، الخطب الجمعية الباهتة الباردة، والنشاط الاجتماعي الفوضوي، إلخ..

وإذا كان المسلمون يعانون من وضعهم كأقلية في المجتمع الكندي.. فهؤلاء المتحولون يجدون أنفسهم في وضع الأقلية داخل الجالية المسلمة.. فتصبح أزمة الهوية وأمة الانتماء لديهم مضاعفة: فلا هم مرتاحون لانتمائهم الكندي، ولا هم مرتاحون لانتمائهم الإسلامي..
فتنة أجد نفسي أمامها حائرا ضعيفا لا أملك ما يمكن أن أساعد به..

المسلمون و"رؤية العالم": نحو "علم فرق" معاصر

محمد بن جماعة


رؤية العالَم، أو "الرؤية الكونية" يُقصَد بها: النموذج التفسيري لفهم طبيعة المشكلات القائمة في الحياة، في مستوياته الثلاثة :
- مستوى التصور الذهني للعوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية،
- ومستوى الموقف من العالَم أو الحالة النفسية التي تستدعي إقامةَ علاقةٍ بهذه العوالم، علاقةِ تمكينٍ وتسخير، وسلامٍ وانسجام.
- ومستوى التخطيط لتغيير العالَم؛ ووضع مجموعة الأهداف التي يسعى الإنسان من خلال تحقيقِها إلى جعلِ العالَم أكثرَ انسجاما وتوازنا، بما يجعله أكثرَ تمكّناً من توظيف أشياءِ العالَم وأَحداثِه وعلاقاته وتسخيرِها لبناء حياةٍ أفضلَ للإنسان في هذا العالم.

وتحاول "رؤية العالم" الإجابة على عدد من الأسئلة في كل مستوى من هذه المستويات، من قبيل:
- كيف يمكن لمختلف الرؤى أن تقود الناس إلى استنتاجات مختلفة اختلافا ملحوظا حول جملة من القضايا والمفاهيم كأصل الكون والإنسان والحياة، والعدل والحرية، والفقر، وتوزيع الثروة، والسلطة، والانتماء والصراع، والحرب والسلم، والإثم والعيب، إلخ.
- ما هو تأثير محددات هوية الفرد (مثل: عِرْقه وجنسه ولغته وانتمائه الجغرافي إلخ) على رؤيته للعالم؟

وتوجد عموما، ثلاثة أنواع من رؤى العالم:
- الرؤى العلمية: وتقوم على دعائم ثلاث: الدعامة التجريبية (Empirism)، والدعامة العقلانية (Rationalism)، والدعامة الشكّيّة (Skepticism)،
- الرؤى الفلسفية: وتقوم على دعائم أربع: المنطق/التفكير المنطقي (Logic/Logical Reasoning)، الاستنتاج الاستنباطي من العام إلى الخاص (Deduction from General to Specific)، الاستنتاج الاستقرائي من الخاص إلى العام (Induction from Specific to General)، الرياضيات (Mathematic)، التخمين (Speculation).
- الرؤى الدينية للعالم: تقوم على دعامتي العقل والنقل (أو الوحي).

وتوجد عدة نماذج لمقارنة مختلف رؤى العالم، غير أننا نكتفي هنا بالإشارة لمثال واحد فقط يمكن أن يشكّل الإطار الأشمل للمقارنة:





وتمثل دراسة ومقارنة "رؤى العالم" محور الدراسات المعاصرة للأديان، لما توفره من زاوية نظر واسعة تساعد في فهم المشاكل الناجمة عن الانطباعات المتراكمة والمتولدة عن الدراسة التجزيئية للأديان. والمقصود هنا بـ"الدراسة المعاصرة للأديان" هو دراستها كأحد أبعاد الحياة، ومحاولة فهمها في السياق التاريخي، ومن خلال التقاطعات الثقافية في ما بينها، على ضوء الأدوات المعرفية التي تتيحها مختلف التخصصات العلمية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة، إلخ. وذلك من أجل تسليط الضوء على حركتها وأثرها في الواقع الإنساني. وتمثل هذه الدراسة إطارا موازيا يتقاطع أحيانا، وبشكل طبيعي، مع العلوم السياسية والاقتصادية. وإذا جاز القول بأن الإنسان "حيوان سياسي بطبعه"، و"حيوان اقتصادي بطبعه"، فهو أيضا "حيوان متدين بطبعه". فليس من أحد، سواء متدينا أو ملحدا، إلا وله رؤية خاصة لذاته وللعالم من حوله، تشكل الخلفية التي ينظر من خلالها لحياته ولحياة الآخرين من حوله. ولذلك فمن الضروري دراسة الأديان من خلال البحث العميق في المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تولّدها لدى الناس فيتحركون على أساسها.

ويعتمد تحليل "رؤية العالم" الناتجة عن الدين على شرح الرؤية وفهمها من خلال ربط الأفكار والمعتقدات الدينية بالرموز والممارسات (أو الشعائر)، بحيث لا يكون التحليل مجرد سرد للمعتقدات النظرية، بل يتم استحضار المعتقد والوعي والممارسة معا، إذ أن رؤية العالم "ليست صورة ساكنة من الرؤية النظرية ولكنها مرجعية يتم تفعيلها لتوجيه الأداء والممارسة، وتكون نتيجتها تعبيراً عن قيمة ما نقوم به من عمل، وليس ما قيل أو يمكن أن يقال" .

وبالنسبة للفرد، تتشكل رؤية العالم بطريقة تدريجية بطيئة وغير واعية (في أغلب الأحيان) في مسار أشبه بعملية الامتصاص، واعتمادا على التعليم والتنشئة والثقافة التي يعيشها. وبالتالي فإن "رؤية العالم" غير ثابتة بصورة مطلقة، بل تبقى في تشكّل وتغير وحركة دائمة، حتى وإن كانت معالمها الرئيسية تبدو أكثر استقرارا. ويستوي في هذا الأمر المتدينُ وغيرُ المتدين.

* المسلمون و"رؤية العالم": نحو "علم فرق" معاصر:

على ضوء ما تقدم، وإذا أردنا الانتقال من العام إلى الخاص، يمكن القول إن دائرة المسلمين لا تختلف عن هذا الإطار، وبالتالي لا يمكن الحديث في الواقع الراهن عن رؤية كونية موحدة للمسلمين، خلافا للواقع الإسلامي السائد لقرون طويلة مضت، والذي تميز بحالة كبيرة من الانسجام والوحدة الفكرية والرؤية المشتركة. وإنما يوجد حاليا تنوع إسلامي كبير، ورؤى إسلامية مختلفة للعالَم داخل الرؤية الإسلامية الجامعة، نتجت عن عوامل كثيرة ومتشابكة، واستجابت للتغييرات الاجتماعية المتزايدة في العالم نتيجة حركة الهجرة والتنقل من بلد إلى بلد، وتلاشي الحدود الثقافية من خلال أدوات الإعلام والتواصل الحديثة كالفضائيات والإنترنت .

أضف إلى ذلك أن الحديث عن رؤية العالم، كما يؤكد د. فتحي حسن ملكاوي، إنما هو: "حديث عما يمتلكه الفرد الإنساني أو الجماعة من إدراك ووعي وفهم، وليس عن شيء آخر لا يتمثل في الإدراك الإنساني. فالذين يميزون بين رؤية معينة واقعية يمتلكها الفرد بالفعل أو تمتلكها الجماعة بالفعل، وبين رؤية أخرى في صورة نظرة مثالية، إنما يتحدثون في واقع الأمر عن فهمهم الفعلي لتلك الرؤية المثالية وهي في نهاية المطاف رؤية بشرية.. وربما يعتمد الإنسان في تشكيل رؤيته على مصدر رباني علوي، كما يعتمد في إيمانه بقضية من القضايا على آية قرآنية. لكن الدلالة الكاملة والمطلقة لهذه الآية شيء والفهم البشري لها شيء آخر" .

وتشكل القضايا التالية أهم المعايير التي يمكن على ضوئها تحديد الفوارق في الرؤى الإسلامية للعالَم ، ونذكرها هنا في غير ترتيب:
- من هو المسلم، ومن هو الكافر
- تعريف الإيمان، والكفر
- مفهوم التكفير وتطبيقاته
- التعامل مع القرآن الكريم
- التعامل مع السنة النبوية
- تحديد الأصول والفروع في الدين
- حديث الافتراق
- تقسيم المعمورة
- مكانة الصحابة وأهل البيت والسلف
- التعددية المذهبية
- التوسل
- مفهوم السنة والبدعة
- الإمامة والخلافة
- الحاكمية والطاعة
- الجهاد والعنف
- جاهلية المجتمع
- الهوية الدينية والهوية الوطنية
- مفهوم الأمة
- الشورى والديموقراطية
- الإصلاح ووسائل التغيير
- الإسلام والقومية
- الإسلام والليبرالية
- العلاقة مع الآخر
- العلاقات الدولية
- الأقليات الدينية
- الحرب والسلم والدعوة.

ولا شك في أن الاهتمام بدراسة التنوع الإسلامي والفوارق المؤثرة بين المسلمين على أساس المعايير المذكورة، من شأنه أن يساهم في إنشاء (علم فِرق) جديد، يقوم على أساس تحديد مختلف الرؤى الإسلامية للعالم.

الأبعاد السبعة للدين

محمد بن جماعة

يقترح عالِم الأديان السكوتلندي نينيان سمارت (Ninian Smart) إطارا نظريا بسبعة أبعاد لدراسة الدين ورؤيته للعالم:
- البعد الأول: العقائدي والفلسفي (Doctrinal and Philosophical dimension): يحتوي الدين على نظام متكامل من المعتقدات. فالإسلام، مثلا، يقوم على الإقرار بوجود إله واحد لا شريك له، وأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) عبد الله ورسوله، أرسله للناس كافة بشيرا ونذيرا، وهكذا... وتشكل هذه الإقرارات، في مجموعها، النظامَ الاعتقادي للإسلام حول ذات الله وصفاته، والعلاقة بين الخالق والكون، وبين الخالق وبقية المخلوقات، بما فيها البشر.

- البعد الثاني: القصصي أو الإخباري (Narrative or Mythic dimension): ويشمل القصص ذات الدلالة الدينية، التي تروى كتابةً أو شفويا، للإخبار والاعتبار والإلهام. وقد تكون هذه القصص رمزية أو تحكي وقائع تاريخية سابقة. 

- البعد الثالث: الأخلاقي والتشريعي (Ethical and Legal dimension): ويشمل جملة الضوابط والأحكام والأخلاق والتعاليم التي يأتمر بها المؤمن في حياته اليومية.

وتشكل الأبعاد الثلاثة الأولى ما يمكن تسميته بـ"شبكة الاعتقاد" أو "الشبكة الإيمانية". غير أن هذه الشبكة لا يمكن فهمها فهما سليما وكاملا إلا في سياق التجربة والممارسة. فالإيمان بالله ورسوله في الإسلام، مثلا، لا يكفي أن يكون إيمانا نظريا ما لم يصحبه التوقير والمحبة القلبية والرضى، واستحضار وجود الله تعالى ورقابته في حياة الإنسان اليومية، واستشعار نعمه وآلائه.

- البعد الرابع: التطبيقي والشعائري (Practical Ritual dimension):يحتوي الدين على بعد شعائري، يتمثل في الصلوات والطقوس والحركات والهيئات والأنشطة والأدعية والأذكار والأعياد والمواسم التي يتعبد بها المؤمن.

- البعد الخامس: التجريبي والشعوري (Experiential and emotional dimension): ويشمل ردود فعل المؤمن حين يواجه سياقا دينيا يشعر بعمقه، فيتحول إلى بكاء أو خشوع، أو خوف أو رجاء، أو نشاط أو غضب، أو رؤيا أو إشراقة روحية، إلخ.

- البعد السادس: الاجتماعي والمؤسساتي (Social or Institutional dimension): ويمثل الثمرة الاجتماعية والتنظيمية للممارسة الدينية، في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض، وفي علاقتهم بغير المؤمنين، وفي علاقة الرجال بالنساء، والأطفال بالكبار، وتوزيع السلطة والوظائف والأدوار.

- البعد السابع: المادي (Material dimension): ويمثل ثمرة لقاء التجربة الدينية مع مظاهر الثقافة الإنسانية، مثل الموسيقى، والفن، والخط، والهندسة المعمارية، واللباس والزينة، والأدوات المستخدمة في أداء الشعائر إلخ.
ولا تشكل هذه الأبعاد أجزاءً من الدين يستقل كل جزء منها بذاته، وإنما هي أبعاد مختلفة حاضرة في نفس الوقت في علاقة تكامل وتأثير متبادل.



ويقترح سمارت دراسة هذه الأبعاد بترتيب عملي متسلسل يختلف عن الترتيب النظري السابق، ولذلك لتسهيل فهم ورسم العلاقات بينها:
1- البعد التجريبي والشعوري (Experiential and emotional dimension)
2- البعد الاجتماعي والمؤسساتي (Social or Institutional dimension)
3- البعد القصصي أو الإخباري (Narrative or Mythic dimension) 
4- البعد العقائدي والفلسفي (Doctrinal and Philosophical dimension)
5- البعد التطبيقي والشعائري (Practical Ritual dimension)
6- البعد الأخلاقي والتشريعي (Ethical and Legal dimension)
7- البعد المادي (Material dimension)

فللأفراد تجارب (1)، وهم يجتمعون مع الآخرين (2)، ويحاولون تبادل وفهم تجاربهم من خلال القصص والأخبار (3)، وخطاب عقلاني مقبول (4)، ويسعون لإبراز هذه التجارب والمعتقدات في حياتهم من خلال أداء الأعمال التعبدية (5) والأعمال اليومية العادية (6)، والأدوات والوسائل المادية التي يبتكرونها (7).

2016/06/21

أصناف المتعاملين مع القرآن

محمد بن جماعة


الناظر للمسلمين يلاحظ تنوعا واختلافا فيما بينهم في كيفية التعامل مع القرآن ومظاهر التفاعل معه والتأثر به.. وحين يسألنا غير المسلمين عن سر هذا التأثر والتفاعل مع القرآن، أو حين نسأل نحن أيضا المسلمين الجدد عن سبب دخولهم في الإسلام، نجد في أغلب الإجابات تعبيرا عن مشاعر وجدانية وتأثر شديد بهذا الكتاب.

ويتجاوز الاهتمام بالقرآن دائرة المؤمنين به وبربانية مصدره ليشمل غير المسلمين، من باحثين وغيرهم.

ولو أردنا النظر إلى أصناف المتعاملين مع القرآن فقط من الزاوية الشعورية الوجدانية لوجدنا تنوعا كبيرا. فالمسلمون يحبون القرآن، غير أن حبهم هذا يظهر بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة وتعبيرات متعددة. وكلهم يشعرون بالانتماء له، غير أن منهم من يقنع ويرضى بالوقوع تحت سلطان القرآن فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه بدون الاهتمام بأي شيء آخر. ومنهم من يدافع عن هذا الانتماء ويحرص على دعوة الآخرين لمشاركته هذا الحب والانتماء للقرآن. ومنهم من يدخل في دائرة أهل القرآن وخاصته الذين يحفظونه ويعلمونه ويخدمونه ويفسرونه.

وكذلك الشأن بالنسبة إلى غير المسلمين من المتعاملين مع القرآن تختلف مشاعرهم، بين عدم الاكتراث والاحترام والغيرة والكراهية. وإن كانت غالبيتهم مشتركة في عدم الشعور بالانتماء للقرآن، فمنهم من يتعرف على القرآن بواسطة محبيه وأتباعه.

ولبيان هذا الأمر، نستعرض صورتين مجازيتين للمتعاملين مع القرآن، يمكن من خلالهما أن نفهم بعض جوانب هذا التنوع من زاويتي الانتماء والمشاعر.

* تقسيم د. محمد فضل الرحمن الأنصاري:

يقوم التصنيف الأول للمتعاملين مع القرآن على صورة مجازية ذكرها د. محمد فضل الرحمن الأنصاري، وهو أستاذ جامعي باكستاني الأصل، متخصص في الدراسات القرآنية، درّس في الستينات بجامعة ماكجيل بمونتريال، ثم في السبعينات والثمانينات بجامعة شيكاجو.. ففي كتاب له نشر بالإنجليزية في مجلدين بعنوان: ""The Quranic Foundations & Structure of Muslim Society"" (أسس المجتمع المسلم وبنيته في القرآن)، شبّه فضل الرحمن القرآن الكريم بـ(الدولة) فقال: "القرآن دولة، والبشر المتعاملون مع الدولة أربعة أنواع:
- سلطة
- مواطنون
- أجانب
- غزاة محاربون".




والمقصود بالسلطة والمواطنين: أولئك الذين يتبنون القرآن، ويتقاسمون الأدوار بحسب علاقتهم بالقرآن.. فقد نجد فيهم من يمثل السلطة (ونعني بهم الفقهاء والعلماء)، ومنهم من يقوم بدور الجنود المدافعين عن حدود الدولة، والبقية يمثلون العامة الذين يعيشون بهدوء وبساطة في كنف القرآن..
وأما (الأجانب) فهم الذين لا يتبنون قوانين القرآن ومبادئه، ولا يشعرون بالانتماء له، ولا يخضعون لسلطته..
وأما (الغزاة المحاربون) فهم الأعداء الذين لا يكفّون عن محاربة الدولة-القرآن، بإهانتها والتعدي على حرماتها وحدودها، أو الاعتداء على مواطنيها وسلطتها.

* تقسيم د. فريد إسحاق:

أما التقسيم الثاني، فقدمه أستاذ جامعي آخر، هو د. فريد إسحاق في كتابه المنشور بالإنجليزية والفرنسية " The Qur'an: A User's Guide"، (القرآن: دليل الاستعمال). وفريد إسحاق مفكر إسلامي من جنوب أفريقيا، ودرّس في جامعات بريطانية، وعرف في السابق بنضاله ضد نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا..

يقسّم فريد إسحاق المتعاملين مع القرآن إلى ستة أصناف. وتكمن قيمة هذا التقسيم وطرافته في اعتماده على مفهوم الحب والكراهية لتقسيم المتعاملين مع القرآن. فقسّم المحبّين للقرآن إلى ثلاثة أصناف تمثل بمجموعها (الأمة) أو (النحن):
- المحب الذي لا يملك نظرة نقدية
- المحب المتدين
- المحب صاحب الروح النقدية

وقسّم (الآخرين) أو (بقية العالم) إلى ثلاثة أصناف أخرى تتعامل مع القرآن على أساس مشاعر لا تندرج ضمن أنواع الحب، وإنما تتراوح بين التعاطف وعدم الاهتمام والغيرة والكراهية للقرآن ولمن يحبون القرآن:
- صديق المحب
- الناقد
- المشكك




1- الصنف الأول (المحب مسلوب اللب): يمكن مقارنته بحال المحب الذي لا يملك نظرة نقدية تجاه محبوبته، أو لنقل لا يرغب في النظر إليها بروح نقدية. فهو قانع مكتف، وحضورُ محبوبته وجمالُها يجعلانه في حالة وجدانية تنسيه واقعه وأحزانه، وتسمح له بأن يكون في حالة من الاستقرار واليقين في عالم مليء بالاضطراب من حوله. والقرآن بالنسبة لهذا المحب يمثل كل شيء.

ولذلك فهو يستغرب حين يسأله الآخرون: "ما الذي تجده في القرآن حتى تتعلق كل هذا التعلق؟ - فيجيب: ماذا تقصدون؟ أرى فيه كل شيء، وهو يوفر لي جميع ما أحتاجه.. ألم ينزل (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (سورة النحل، 16:89؟ ألا ترى أنه (شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس 10:57)؟ فأن تكون مع القرآن يعني أن تكون مع الله".

هذا النوع من المحبّين، في غالبه، تراه مكتفيا قانعا بتلذذ هذه العلاقة مع محبوبته ولا يطرح على نفسه أية تساؤلات بخصوصها. وحين تأتيه بعض هذه التساؤلات من الخارج، سواء فيما يتعلق بشكل محبوبته، أو إن كانت ذات نسب شريف، أو ولدت في (أُمِّ القُرَى)، أو إن كانت جواهرها ودررها حقيقية وذات قيمة، فإنه يعتبر أن مبعث هذه التساؤلات هو الغيرة والحسد والرغبة في الانتقاص من جمال المحبوبة. ولذلك فهذا النوع من المحبّين للقرآن، وإن كانوا في ظاهرهم محبين عاديين إلا أن تعلقهم به شديد، وهم يتحاشون سماع مثل هذه التساؤلات لأنها تشكل لهم نوعا من الشغب الذي يشوش عليهم لذتهم في حب القرآن.

2- الصنف الثاني (المحب المتعبد): هو صنف المحبّين الراغبين في شرح مظاهر جمال محبوبتهم للآخرين، وأسباب تعلقهم بها، ولماذا يعتبرونها هبة من الله ويجب على الجميع أن يعترفوا بذلك. وهذا النوع من المحبّين يهتم بأدق التفاصيل في فضائل القرآن وأصله وتاريخه وطبيعته الأخاذة. وهذا المحب العاشق والعارف في نفس الوقت، تراه يتحسّر ويستغرب من عجز الآخرين عن إدراك جمال محبوبته، وانسجام هيئتها وغزارة حكمتها، التي تفوق الوصف وتستوجب الاحترام.

والقرآن في نظر هؤلاء المحبّين "فريد في صنعته، وليس يمنع الآخرين من إدراك ذلك والاعتراف به إلا العمى والغيرة والجهل". وهذا هو صنف العلماء المتدينين.

3- الصنف الثالث (المحب المفكّر): هو صنف المحبّين الذين يمتلكون ملكة نقدية. وهذا النوع مقتنع بسحر محبوبته وجمالها، غير أنه يرى مع ذلك أن مواجهة التساؤلات المشككة في طبيعة محبوبته وأصولها ولغتها، تمثل ضريبة حبه القوي وتعلقه الشديد بمحبوبته، بل يرى فيها أيضا فرصة لتعميق هذا الحب وتقوية هذا التعلق.

ويتميز هذا النوع من المحبّين بالقدرة على الحوار مع النوعين السابقين من المحبّين وأيضا مع الصنفين التاليين. وهو ينظر إلى الصنفين الأولين من المحبّين بنوع من عدم الرضى لأنه يرى أن محبتهما لا تؤدي إلى إبراز القيمة الحقيقية والكاملة القرآن. وهو يرى أنه لا يستطيع الاكتفاء بالنظر إلى الجوانب الظاهرة من جمال القرآن، وإنما يعتقد أن القرآن قادر على ما هو أكثر من ذلك، بحيث يجب أن يعود من جديد صانعا للحضارة والثقافة والفنون في مجتمعنا المعاصر.

4- الصنف الرابع (صديق المحب): ينتمي إلى "العالم الآخر"، عالم غير المسلمين، ويمثل خطا فاصلا بين الصنف السابق (صنف المحب ذي الروح النقدية) والصنف اللاحق (صنف المشكّك في جمال القرآن). وهذا الصنف يصفه فريد إسحاق بأنه صديق المحب، ويشبهه بحالة بعض الأصدقاء الذين ينظرون بعين الإعجاب إلى أصدقائهم الأزواج ويتساؤلون: (هل ما زال يحب أحدهما الآخر؟ وهل سيستمر تعلق أحدهما بالآخر بنفس الوتيرة السابقة؟).

تلك هي حالة الصديق غير المسلم القريب من أحد المسلمين، والذي ينظر للقرآن بعين التقدير والاحترام، ويرغب في معرفة تفاصيل أكثر عن مدى استمرار تعلق صديقه بهذا القرآن. وهذا الصنف من المتعاملين مع القرآن يسمهيم فريد إسحاق: الملاحظين المشاركين، ليس لأنهم يتبنون الإسلام، وإنما لأنهم يتبنون حساسية أصدقائهم المسلمين تجاه القرآن وتجاه الإسلام. ويشترك هذا الصنف مع الصنف السابق في المعاناة من عدم رضى الآخرين عن علاقة الصداقة بينهما، فهو متهم من قبل غير المسلمين باقرتابه من المسلمين أكثر من اللازم، في حين يتهم المسلم الذي يصادقه من قبل المسلمين الآخرين بأنه يظهر المودة لغير المسلمين.

هذا الصنف ينكر محبة القرآن ولكنه يحترمه ويشعر بالمسئولية الكبيرة تجاه مشاعر المحبّين للقرآن. ويعتبر أن جمال القرآن ظاهر في عيون محبيه وأتباعه، وإذا كان هؤلاء الأتباع يعتبرونه كلام الله، فليكن الأمر كذلك، وليُقْبَل القرآن بهذه الصفة التي يؤمن بها محبّوه.

5- الصنف الخامس (المراقب الناقد): يمكن تسميته بـ"المراقب الناقد" الذي لا يشعر بأي مسئولية تجاه مشاعر المحب، ولا يهتم سوى بملاحظة القرآن والبحث في الوقائع المتعلقة به. وهذا الصنف يقدم نفسه كباحث غير معني بإثبات أو نفي المصدر الإلهي للقرآن، ولكنه في المقابل لا يتوانى في اتهام القرآن بأنه مجرد نسخة مطورة من التراث اليهودي المسيحي.

ويرى فريد إسحاق أن هذا الصنف المتلصص، وإن ادّعى الموضوعية وعدم الاهتمام، لا يلقى ترحيبا من الأصناف الأربعة السابقة، لأن من المعروف أن الحياد في البحث المعرفي غير ممكن.

6- الصنف السادس والأخير (المشكّك الكاره): هو صنف المشككين في قيمة القرآن وجماله، وهم في العادة متعلقون بمحبوبة أخرى، كالإنجيل أو الإلحاد مثلا. ولأنهم قلقون من ازدياد أتباع القرآن ومحبيه، فهم يحاولون إثبات بشرية القرآن وأنه لا يتميز عن غيره من التجارب الإنسانية والإنتاج المعرفي البشري. وإذا عجزوا عن تحويل المسلم إلى المسيحية أو الإلحاد، تراهم يتجهون إلى التشهير وإطلاق صيحات الفزع من خطر تعلق المسلمين بالقرآن وتعاظم دورهم السياسي، وكلما رأوا سلوكا خطيرا من المحبّين للقرآن سارعوا باتهام القرآن بأنه وراء هذا السلوك: (أليس القرآن هو الذي يدعوهم للقتل؟ أليس القرآن هو الذي يجعل من المرأة ذليلة مهينة؟ إلخ." 

هذا هو إذن تقسيم فريد إسحاق لأصناف المتعاملين الستة مع القرآن.. وقد فصّله كثيرا في كتابه المذكور، الذي يحتوي على كثير من الأمور الجديرة بالقراءة والتأمل، وإن كان من الممكن أن نختلف معه في بعض التفاصيل.

ولعل ما يهم التركيز عليه في ما يمكن استنباطه من هذين التقسيمين، أمور ثلاثة:

الأول: أننا نحن المسلمين نشترك جميعا في حب القرآن والتعلق به والشعور بالانتماء له.. ولكن قد يظهر حبنا بأشكال مختلفة، ويتجسد انتماؤنا بصور وأدوار متنوعة.
ولذلك، فلعلنا نخطئ إذا وجهنا اللوم لمسلمين آخرين لمجرد حبهم للقرآن بشكل مختلف عن حبنا له.
ولعلنا نخطئ أيضا إذا اعتبرنا مظهر انتمائنا للقرآن هو الوحيد المشروع.

والثاني: أن غير المسلمين ليسوا سواءً في علاقتهم بالمسلمين ومقدّسات المسلمين. ولذلك يجب التفريق في المعاملة وعدم جمعهم في سلة واحدة. وغير المسلم قد يكون غير مؤمن، ولكنه ليس بالضرورة عدوا محاربا. فالفرق كبير بين غير المكترث للقرآن والمتعاطف معه (أو مع من يحب القرآن من المسلمين)، والمحب لغير القرآن الناظر له بعين الغيرة، والكاره الذي يكيد المكائد.

والثالث: أن تقسيم فريد إسحاق يشير إلى قيمة المنطق الوجداني للبشر. وهو يذكّرنا بما أشار إليه الكاتب الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (الأفكار والمعتقدات: التكوين والتطور) من أنّ المنطق الذي يحكم تفكير الإنسان وسلوكه ليس كله عقلانيا، وإنما هو عبارة عن تركيبة معقدة من خمسة أنواع من المنطق، تتراكم وتتزاحم في نفس الوقت فيما بينها. وهي: المنطق العقلاني، والمنطق الوجداني العاطفي، والمنطق الاعتقادي، والمنطق الجماعي، والمنطق البيولوجي.


2014/05/08

الإتقان وقياس الأداء والمساءلة والمحاسبة معاني غائبة او تكاد في ثقافتنا التونسية

الإتقان وقياس الأداء والمساءلة والمحاسبة معاني غائبة او تكاد في ثقافتنا التونسية.. وهذا هو جوهر النقد الذي أمارسه.. 

تذكير بتعريف الإتقان (الوارد في القرآن والسنة بلفظين مختلفين: الإتقان والإحسان): الإتقان في العمل أداء لعمل ما تتوفر فيه شروط ثلاثة:
- أولها: أداء العمل دون خلل فيه.
- وثانيها: الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة ومعروفة مسبقا.
- وثالثها: أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.. بحيث يتمكن هذا الأداء من تحقيق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل والحصول على رضاه.

هذا المعنى كان غائبا في بعض أبعاده عن تفكيري حين كنت في تونس.. رغم أنني كنت شديد الحساسية والانتباه له فيما يتعلق بالبحث العلمي وقواعد التفكير السليم... ورغم ما حاولت إنجازه في إطار عملي بتونس حين كنت مديرا لمصحة طبية.. ولكن حصلت لي صدمة ثقافية كبيرة حين هاجرت لكندا وعشت في هذا المجتمع الغربي، واضطررت للعودة للدراسة بالجامعة ثم البحث عن عمل..

ما تعلمته هنا كشف لي حجم الهوة في طرق التفكير بين ما نعيشه ونمارسه في تونس، وما يعيشه ويمارسه الغرب..

نحن في تونس فاقدون تقريبا لمعنى الإتقان.. وفاقدون تماما لمعنى المحاسبة.. ومعنى المساءلة.. ومعنى التقييم.. وفاقدون للمعنى الحقيقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي لا يقصد به محاسبة الناس في ما يتعلق بحياتهم الشخصية (طريقة لباسهم وأكلهم ومشيهم، إلخ)، وإنما يقصد به قياس الأداء الفردي والجماعي والتنبيه على مظاهر الخلل لإصلاحها..

ما لاحظته في تونس سواء قبل الثورة أو بعدها، هو أن مفهوم الإتقان وقياس الأداء والمحاسبة، والتقييم لم يطبق بشكل جيد إلا في قطاع الرياضة الذي يعمل بعقلية الاحتراف والعقلية الغربية.. والجميع يلاحظ كيف أصبح اللاعبون التونسيون يملكون القدرة على الوصول لدرجات عليا من الكفاءة في الأداء، والقدرة على قبول النقد والإصلاح والتطوير السريع، وقبول نقد المدرب وقبول خططه التكتيكية، إلخ.. وهذا ما نرى أثره في وضع الكرة التونسية على المستوى العربي والإفريقي والدولي، ووضع اللاعبين التونسيين وقدرتهم على اللعب في بطولات دولية راقية..

قطاع الرياضة في تونس هو الوحيد تقريبا الذي نجح في تجاوز عقد ثقافتنا التونسية المتواكلة، المتهاونة، الراضية بالموجود، والمتواطئة على الكسل والتراخي وعدم احترام ضوابط الإتقان (في الوقت، والتخطيط والممارسة والمساءلة والمحاسبة والإصلاح...)..

في ما عدا ذلك من أطر العمل الجماعي، سواء كانت أحزابا سياسية أو جمعيات مدنية، ما زالت توجد سلوكيات خاطئة وطرق تفكير منحرفة، وأساليب تضامن بين الأفراد غير سليمة.. وهي ما نحتاج للتركيز عليها من أجل المصلحة العامة لفرق العمل الصغيرة، وايضا للمصلحة العامة للتوانسة عموما.. وقد ذكرت عدة مرات أن من مصلحة المشهد السياسي في تونس، مثلا، أن تكون فيه جميع الأحزاب قوية، وديموقراطية، وذات قاعدة شعبية عريضة، وتدار بعقل إداري محترف، وتتخذ مواقف سياسية ذكية وعميقة ونافعة في التدافع العام.. نفس الشيء بالنسبة إلى الجمعيات المدنية.. مثل كرة القدم: لا يفيد وجود فريق قوي ومحترف في بطولة ضعيفة فيها فرق ضعيفة.. ما يفيد هو وجود بطولة قوية عموما، فيها الكثير من الفرق القوية والمحترفة.. نحن إذن نحتاج لعقلية تنافسية الجميع فيها رابحون (Gagnant-Gagnant)، وليس فيها رابح وخاسر..

في هذا الإطار، أريد أن يفهم الجميع طبيعة نقدي للنهضة ولغيرها من الأحزاب أو المنظمات.. فنقدي لا يهدف للتدمير أو الانتقاص.. وإنما يهدف للتحدي الفكري والسياسي والسلوكي، والوقوف عند الأخطاء والسلوكيات الخاطئة، كي يدرك اصحابها وجود الخطأ ويتوقفوا عنده بالدراسة والتقييم والبحث عن حلول والإصلاح..

ومن يظن أو يتوهم أو يزعم أن ما يحصل في هذه الأيام الأخيرة هو نتيجة تحيزي السياسي ضد النهضة، أو عقدة نفسية تجاهها، أو رغبة جفينة في الانتقام بعد استقالتي منها، إنما يمعن في الخطأ والتفكير المنحرف عن الصواب.. 

ليست لدي أي "عقدة" لا نفسية ولا فكرية ولا سياسية تجاه النهضة أو قيادة النهضة أو أعضاء النهضة أو مشروع النهضة.. ولا تجاه المؤتمر ولا غيره من الأحزاب.. أنا معني بالتغيير والإصلاح والتطوير وخلق مجال تنافسي على الخير في الواقع التونسي عموما.. ولذلك فقد كنت منفتحا على النهضة وعلى المؤتمر وكثير من الشباب غير المسيس.. أتعامل مع الجميع بنفس الحرص عليكم وإرادة الخير لكم، وحب التعاون معكم.. للمساعدة بما اقدر في النمو الروحي والنفسي والعقلي ووالمعرفي والسلوكي للتوانسة عموما..

ما أنقد فيه النهضة وغيرها من الأحزاب، ليسن لاستغلال نقاط ضعفهم، أو لتوظيفها، أو لتدمير صورتهم العامة وتحبيطهم.. وإنما هو نابع مطلقا من إرادة تطوير القدرات التونسية، وخروج أعمال الجميع في أحسن شكل ممكن.. ولا علاقة لهذا الأمر بالنهضة في حد ذاتها.. وإنما يشمل الجميع تقريبا: المؤتمر، وفاء، الجبهة، إلخ..

ولذلك، فسأواصل النقد بنفس الشكل ونفس الحرص ونفس المحاسبة ونفس المراقبة..

ومثلما قلت سابقا: النقد أساسه تجريح، يعني أنه عبارة عن جراحة.. لذلك فهو مؤلم.. والطفل الصغير عداة يرفض الجراحة خوفا من الألم وتفاديا له.. أما الكبير فيفترض أن يقبل بالألم ولو على مضض، لما يدركه من قيمة الجراحة في عملية العلاج والإصلاح..

هذا ما حصل لي حين أتيت إلى كندا، فعانيت الكثير من النقد بسبب سلوكياتي الخاطئة في التعلم والتفكير والممارسة والإدارة وإدارة مصاريفي المالية، وعملي في إطار الجمعيات، إلخ.. ما حصل لي كان زلزالا ثقافيا أربكني لعدة أشهر.. وربما لسنوات.. ولكنني في الأخير أدركت قيمة ما تعرضت له، وقبلت به، وألزمت نفسي بقبول النقد والملاحظات وتعلمت منها وغيرت من عاداتي السلوكية والفكرية.. لكي أصل لما أنا عليه.. بدون أن أدّعي الكمال أو الرضا التام.. فأنا متعلم دائم.. وما زلت أكتشف الكثير في بواطن عقلي ونفسي، وترسباتي الثقافية.. وأرجو أن أستمر في تجاوزها يوما بعد يوم..

أرجو أن يكون هذا الأمر واضحا.. مرة أخرى..

محمد بن جماعة