الإتقان وقياس الأداء والمساءلة والمحاسبة معاني غائبة او تكاد في ثقافتنا التونسية.. وهذا هو جوهر النقد الذي أمارسه..
تذكير بتعريف الإتقان (الوارد في القرآن والسنة بلفظين مختلفين: الإتقان والإحسان): الإتقان في العمل أداء لعمل ما تتوفر فيه شروط ثلاثة:
- أولها: أداء العمل دون خلل فيه.
- وثانيها: الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة ومعروفة مسبقا.
- وثالثها: أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.. بحيث يتمكن هذا الأداء من تحقيق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل والحصول على رضاه.
هذا المعنى كان غائبا في بعض أبعاده عن تفكيري حين كنت في تونس.. رغم أنني كنت شديد الحساسية والانتباه له فيما يتعلق بالبحث العلمي وقواعد التفكير السليم... ورغم ما حاولت إنجازه في إطار عملي بتونس حين كنت مديرا لمصحة طبية.. ولكن حصلت لي صدمة ثقافية كبيرة حين هاجرت لكندا وعشت في هذا المجتمع الغربي، واضطررت للعودة للدراسة بالجامعة ثم البحث عن عمل..
ما تعلمته هنا كشف لي حجم الهوة في طرق التفكير بين ما نعيشه ونمارسه في تونس، وما يعيشه ويمارسه الغرب..
نحن في تونس فاقدون تقريبا لمعنى الإتقان.. وفاقدون تماما لمعنى المحاسبة.. ومعنى المساءلة.. ومعنى التقييم.. وفاقدون للمعنى الحقيقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي لا يقصد به محاسبة الناس في ما يتعلق بحياتهم الشخصية (طريقة لباسهم وأكلهم ومشيهم، إلخ)، وإنما يقصد به قياس الأداء الفردي والجماعي والتنبيه على مظاهر الخلل لإصلاحها..
ما لاحظته في تونس سواء قبل الثورة أو بعدها، هو أن مفهوم الإتقان وقياس الأداء والمحاسبة، والتقييم لم يطبق بشكل جيد إلا في قطاع الرياضة الذي يعمل بعقلية الاحتراف والعقلية الغربية.. والجميع يلاحظ كيف أصبح اللاعبون التونسيون يملكون القدرة على الوصول لدرجات عليا من الكفاءة في الأداء، والقدرة على قبول النقد والإصلاح والتطوير السريع، وقبول نقد المدرب وقبول خططه التكتيكية، إلخ.. وهذا ما نرى أثره في وضع الكرة التونسية على المستوى العربي والإفريقي والدولي، ووضع اللاعبين التونسيين وقدرتهم على اللعب في بطولات دولية راقية..
قطاع الرياضة في تونس هو الوحيد تقريبا الذي نجح في تجاوز عقد ثقافتنا التونسية المتواكلة، المتهاونة، الراضية بالموجود، والمتواطئة على الكسل والتراخي وعدم احترام ضوابط الإتقان (في الوقت، والتخطيط والممارسة والمساءلة والمحاسبة والإصلاح...)..
في ما عدا ذلك من أطر العمل الجماعي، سواء كانت أحزابا سياسية أو جمعيات مدنية، ما زالت توجد سلوكيات خاطئة وطرق تفكير منحرفة، وأساليب تضامن بين الأفراد غير سليمة.. وهي ما نحتاج للتركيز عليها من أجل المصلحة العامة لفرق العمل الصغيرة، وايضا للمصلحة العامة للتوانسة عموما.. وقد ذكرت عدة مرات أن من مصلحة المشهد السياسي في تونس، مثلا، أن تكون فيه جميع الأحزاب قوية، وديموقراطية، وذات قاعدة شعبية عريضة، وتدار بعقل إداري محترف، وتتخذ مواقف سياسية ذكية وعميقة ونافعة في التدافع العام.. نفس الشيء بالنسبة إلى الجمعيات المدنية.. مثل كرة القدم: لا يفيد وجود فريق قوي ومحترف في بطولة ضعيفة فيها فرق ضعيفة.. ما يفيد هو وجود بطولة قوية عموما، فيها الكثير من الفرق القوية والمحترفة.. نحن إذن نحتاج لعقلية تنافسية الجميع فيها رابحون (Gagnant-Gagnant)، وليس فيها رابح وخاسر..
في هذا الإطار، أريد أن يفهم الجميع طبيعة نقدي للنهضة ولغيرها من الأحزاب أو المنظمات.. فنقدي لا يهدف للتدمير أو الانتقاص.. وإنما يهدف للتحدي الفكري والسياسي والسلوكي، والوقوف عند الأخطاء والسلوكيات الخاطئة، كي يدرك اصحابها وجود الخطأ ويتوقفوا عنده بالدراسة والتقييم والبحث عن حلول والإصلاح..
ومن يظن أو يتوهم أو يزعم أن ما يحصل في هذه الأيام الأخيرة هو نتيجة تحيزي السياسي ضد النهضة، أو عقدة نفسية تجاهها، أو رغبة جفينة في الانتقام بعد استقالتي منها، إنما يمعن في الخطأ والتفكير المنحرف عن الصواب..
ليست لدي أي "عقدة" لا نفسية ولا فكرية ولا سياسية تجاه النهضة أو قيادة النهضة أو أعضاء النهضة أو مشروع النهضة.. ولا تجاه المؤتمر ولا غيره من الأحزاب.. أنا معني بالتغيير والإصلاح والتطوير وخلق مجال تنافسي على الخير في الواقع التونسي عموما.. ولذلك فقد كنت منفتحا على النهضة وعلى المؤتمر وكثير من الشباب غير المسيس.. أتعامل مع الجميع بنفس الحرص عليكم وإرادة الخير لكم، وحب التعاون معكم.. للمساعدة بما اقدر في النمو الروحي والنفسي والعقلي ووالمعرفي والسلوكي للتوانسة عموما..
ما أنقد فيه النهضة وغيرها من الأحزاب، ليسن لاستغلال نقاط ضعفهم، أو لتوظيفها، أو لتدمير صورتهم العامة وتحبيطهم.. وإنما هو نابع مطلقا من إرادة تطوير القدرات التونسية، وخروج أعمال الجميع في أحسن شكل ممكن.. ولا علاقة لهذا الأمر بالنهضة في حد ذاتها.. وإنما يشمل الجميع تقريبا: المؤتمر، وفاء، الجبهة، إلخ..
ولذلك، فسأواصل النقد بنفس الشكل ونفس الحرص ونفس المحاسبة ونفس المراقبة..
ومثلما قلت سابقا: النقد أساسه تجريح، يعني أنه عبارة عن جراحة.. لذلك فهو مؤلم.. والطفل الصغير عداة يرفض الجراحة خوفا من الألم وتفاديا له.. أما الكبير فيفترض أن يقبل بالألم ولو على مضض، لما يدركه من قيمة الجراحة في عملية العلاج والإصلاح..
هذا ما حصل لي حين أتيت إلى كندا، فعانيت الكثير من النقد بسبب سلوكياتي الخاطئة في التعلم والتفكير والممارسة والإدارة وإدارة مصاريفي المالية، وعملي في إطار الجمعيات، إلخ.. ما حصل لي كان زلزالا ثقافيا أربكني لعدة أشهر.. وربما لسنوات.. ولكنني في الأخير أدركت قيمة ما تعرضت له، وقبلت به، وألزمت نفسي بقبول النقد والملاحظات وتعلمت منها وغيرت من عاداتي السلوكية والفكرية.. لكي أصل لما أنا عليه.. بدون أن أدّعي الكمال أو الرضا التام.. فأنا متعلم دائم.. وما زلت أكتشف الكثير في بواطن عقلي ونفسي، وترسباتي الثقافية.. وأرجو أن أستمر في تجاوزها يوما بعد يوم..
أرجو أن يكون هذا الأمر واضحا.. مرة أخرى..
محمد بن جماعة
Aucun commentaire:
Publier un commentaire