محمد بن جماعة
رؤية العالَم، أو "الرؤية الكونية" يُقصَد بها: النموذج التفسيري لفهم طبيعة المشكلات القائمة في الحياة، في مستوياته الثلاثة :
- مستوى التصور الذهني للعوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية،
- ومستوى الموقف من العالَم أو الحالة النفسية التي تستدعي إقامةَ علاقةٍ بهذه العوالم، علاقةِ تمكينٍ وتسخير، وسلامٍ وانسجام.
- ومستوى التخطيط لتغيير العالَم؛ ووضع مجموعة الأهداف التي يسعى الإنسان من خلال تحقيقِها إلى جعلِ العالَم أكثرَ انسجاما وتوازنا، بما يجعله أكثرَ تمكّناً من توظيف أشياءِ العالَم وأَحداثِه وعلاقاته وتسخيرِها لبناء حياةٍ أفضلَ للإنسان في هذا العالم.
وتحاول "رؤية العالم" الإجابة على عدد من الأسئلة في كل مستوى من هذه المستويات، من قبيل:
- كيف يمكن لمختلف الرؤى أن تقود الناس إلى استنتاجات مختلفة اختلافا ملحوظا حول جملة من القضايا والمفاهيم كأصل الكون والإنسان والحياة، والعدل والحرية، والفقر، وتوزيع الثروة، والسلطة، والانتماء والصراع، والحرب والسلم، والإثم والعيب، إلخ.
- ما هو تأثير محددات هوية الفرد (مثل: عِرْقه وجنسه ولغته وانتمائه الجغرافي إلخ) على رؤيته للعالم؟
وتوجد عموما، ثلاثة أنواع من رؤى العالم:
- الرؤى العلمية: وتقوم على دعائم ثلاث: الدعامة التجريبية (Empirism)، والدعامة العقلانية (Rationalism)، والدعامة الشكّيّة (Skepticism)،
- الرؤى الفلسفية: وتقوم على دعائم أربع: المنطق/التفكير المنطقي (Logic/Logical Reasoning)، الاستنتاج الاستنباطي من العام إلى الخاص (Deduction from General to Specific)، الاستنتاج الاستقرائي من الخاص إلى العام (Induction from Specific to General)، الرياضيات (Mathematic)، التخمين (Speculation).
- الرؤى الدينية للعالم: تقوم على دعامتي العقل والنقل (أو الوحي).
وتوجد عدة نماذج لمقارنة مختلف رؤى العالم، غير أننا نكتفي هنا بالإشارة لمثال واحد فقط يمكن أن يشكّل الإطار الأشمل للمقارنة:
وتمثل دراسة ومقارنة "رؤى العالم" محور الدراسات المعاصرة للأديان، لما توفره من زاوية نظر واسعة تساعد في فهم المشاكل الناجمة عن الانطباعات المتراكمة والمتولدة عن الدراسة التجزيئية للأديان. والمقصود هنا بـ"الدراسة المعاصرة للأديان" هو دراستها كأحد أبعاد الحياة، ومحاولة فهمها في السياق التاريخي، ومن خلال التقاطعات الثقافية في ما بينها، على ضوء الأدوات المعرفية التي تتيحها مختلف التخصصات العلمية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة، إلخ. وذلك من أجل تسليط الضوء على حركتها وأثرها في الواقع الإنساني. وتمثل هذه الدراسة إطارا موازيا يتقاطع أحيانا، وبشكل طبيعي، مع العلوم السياسية والاقتصادية. وإذا جاز القول بأن الإنسان "حيوان سياسي بطبعه"، و"حيوان اقتصادي بطبعه"، فهو أيضا "حيوان متدين بطبعه". فليس من أحد، سواء متدينا أو ملحدا، إلا وله رؤية خاصة لذاته وللعالم من حوله، تشكل الخلفية التي ينظر من خلالها لحياته ولحياة الآخرين من حوله. ولذلك فمن الضروري دراسة الأديان من خلال البحث العميق في المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تولّدها لدى الناس فيتحركون على أساسها.
ويعتمد تحليل "رؤية العالم" الناتجة عن الدين على شرح الرؤية وفهمها من خلال ربط الأفكار والمعتقدات الدينية بالرموز والممارسات (أو الشعائر)، بحيث لا يكون التحليل مجرد سرد للمعتقدات النظرية، بل يتم استحضار المعتقد والوعي والممارسة معا، إذ أن رؤية العالم "ليست صورة ساكنة من الرؤية النظرية ولكنها مرجعية يتم تفعيلها لتوجيه الأداء والممارسة، وتكون نتيجتها تعبيراً عن قيمة ما نقوم به من عمل، وليس ما قيل أو يمكن أن يقال" .
وبالنسبة للفرد، تتشكل رؤية العالم بطريقة تدريجية بطيئة وغير واعية (في أغلب الأحيان) في مسار أشبه بعملية الامتصاص، واعتمادا على التعليم والتنشئة والثقافة التي يعيشها. وبالتالي فإن "رؤية العالم" غير ثابتة بصورة مطلقة، بل تبقى في تشكّل وتغير وحركة دائمة، حتى وإن كانت معالمها الرئيسية تبدو أكثر استقرارا. ويستوي في هذا الأمر المتدينُ وغيرُ المتدين.
* المسلمون و"رؤية العالم": نحو "علم فرق" معاصر:
على ضوء ما تقدم، وإذا أردنا الانتقال من العام إلى الخاص، يمكن القول إن دائرة المسلمين لا تختلف عن هذا الإطار، وبالتالي لا يمكن الحديث في الواقع الراهن عن رؤية كونية موحدة للمسلمين، خلافا للواقع الإسلامي السائد لقرون طويلة مضت، والذي تميز بحالة كبيرة من الانسجام والوحدة الفكرية والرؤية المشتركة. وإنما يوجد حاليا تنوع إسلامي كبير، ورؤى إسلامية مختلفة للعالَم داخل الرؤية الإسلامية الجامعة، نتجت عن عوامل كثيرة ومتشابكة، واستجابت للتغييرات الاجتماعية المتزايدة في العالم نتيجة حركة الهجرة والتنقل من بلد إلى بلد، وتلاشي الحدود الثقافية من خلال أدوات الإعلام والتواصل الحديثة كالفضائيات والإنترنت .
أضف إلى ذلك أن الحديث عن رؤية العالم، كما يؤكد د. فتحي حسن ملكاوي، إنما هو: "حديث عما يمتلكه الفرد الإنساني أو الجماعة من إدراك ووعي وفهم، وليس عن شيء آخر لا يتمثل في الإدراك الإنساني. فالذين يميزون بين رؤية معينة واقعية يمتلكها الفرد بالفعل أو تمتلكها الجماعة بالفعل، وبين رؤية أخرى في صورة نظرة مثالية، إنما يتحدثون في واقع الأمر عن فهمهم الفعلي لتلك الرؤية المثالية وهي في نهاية المطاف رؤية بشرية.. وربما يعتمد الإنسان في تشكيل رؤيته على مصدر رباني علوي، كما يعتمد في إيمانه بقضية من القضايا على آية قرآنية. لكن الدلالة الكاملة والمطلقة لهذه الآية شيء والفهم البشري لها شيء آخر" .
وتشكل القضايا التالية أهم المعايير التي يمكن على ضوئها تحديد الفوارق في الرؤى الإسلامية للعالَم ، ونذكرها هنا في غير ترتيب:
- من هو المسلم، ومن هو الكافر
- تعريف الإيمان، والكفر
- مفهوم التكفير وتطبيقاته
- التعامل مع القرآن الكريم
- التعامل مع السنة النبوية
- تحديد الأصول والفروع في الدين
- حديث الافتراق
- تقسيم المعمورة
- مكانة الصحابة وأهل البيت والسلف
- التعددية المذهبية
- التوسل
- مفهوم السنة والبدعة
- الإمامة والخلافة
- الحاكمية والطاعة
- الجهاد والعنف
- جاهلية المجتمع
- الهوية الدينية والهوية الوطنية
- مفهوم الأمة
- الشورى والديموقراطية
- الإصلاح ووسائل التغيير
- الإسلام والقومية
- الإسلام والليبرالية
- العلاقة مع الآخر
- العلاقات الدولية
- الأقليات الدينية
- الحرب والسلم والدعوة.
ولا شك في أن الاهتمام بدراسة التنوع الإسلامي والفوارق المؤثرة بين المسلمين على أساس المعايير المذكورة، من شأنه أن يساهم في إنشاء (علم فِرق) جديد، يقوم على أساس تحديد مختلف الرؤى الإسلامية للعالم.
Aucun commentaire:
Publier un commentaire