محمد بن جماعة
الناظر للمسلمين يلاحظ تنوعا واختلافا فيما بينهم في كيفية التعامل مع القرآن ومظاهر التفاعل معه والتأثر به.. وحين يسألنا غير المسلمين عن سر هذا التأثر والتفاعل مع القرآن، أو حين نسأل نحن أيضا المسلمين الجدد عن سبب دخولهم في الإسلام، نجد في أغلب الإجابات تعبيرا عن مشاعر وجدانية وتأثر شديد بهذا الكتاب.
الناظر للمسلمين يلاحظ تنوعا واختلافا فيما بينهم في كيفية التعامل مع القرآن ومظاهر التفاعل معه والتأثر به.. وحين يسألنا غير المسلمين عن سر هذا التأثر والتفاعل مع القرآن، أو حين نسأل نحن أيضا المسلمين الجدد عن سبب دخولهم في الإسلام، نجد في أغلب الإجابات تعبيرا عن مشاعر وجدانية وتأثر شديد بهذا الكتاب.
ويتجاوز الاهتمام بالقرآن دائرة المؤمنين به وبربانية مصدره ليشمل غير المسلمين، من باحثين وغيرهم.
ولو أردنا النظر إلى أصناف المتعاملين مع القرآن فقط من الزاوية الشعورية الوجدانية لوجدنا تنوعا كبيرا. فالمسلمون يحبون القرآن، غير أن حبهم هذا يظهر بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة وتعبيرات متعددة. وكلهم يشعرون بالانتماء له، غير أن منهم من يقنع ويرضى بالوقوع تحت سلطان القرآن فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه بدون الاهتمام بأي شيء آخر. ومنهم من يدافع عن هذا الانتماء ويحرص على دعوة الآخرين لمشاركته هذا الحب والانتماء للقرآن. ومنهم من يدخل في دائرة أهل القرآن وخاصته الذين يحفظونه ويعلمونه ويخدمونه ويفسرونه.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى غير المسلمين من المتعاملين مع القرآن تختلف مشاعرهم، بين عدم الاكتراث والاحترام والغيرة والكراهية. وإن كانت غالبيتهم مشتركة في عدم الشعور بالانتماء للقرآن، فمنهم من يتعرف على القرآن بواسطة محبيه وأتباعه.
ولبيان هذا الأمر، نستعرض صورتين مجازيتين للمتعاملين مع القرآن، يمكن من خلالهما أن نفهم بعض جوانب هذا التنوع من زاويتي الانتماء والمشاعر.
* تقسيم د. محمد فضل الرحمن الأنصاري:
يقوم التصنيف الأول للمتعاملين مع القرآن على صورة مجازية ذكرها د. محمد فضل الرحمن الأنصاري، وهو أستاذ جامعي باكستاني الأصل، متخصص في الدراسات القرآنية، درّس في الستينات بجامعة ماكجيل بمونتريال، ثم في السبعينات والثمانينات بجامعة شيكاجو.. ففي كتاب له نشر بالإنجليزية في مجلدين بعنوان: ""The Quranic Foundations & Structure of Muslim Society"" (أسس المجتمع المسلم وبنيته في القرآن)، شبّه فضل الرحمن القرآن الكريم بـ(الدولة) فقال: "القرآن دولة، والبشر المتعاملون مع الدولة أربعة أنواع:
- سلطة
- مواطنون
- أجانب
- غزاة محاربون".
والمقصود بالسلطة والمواطنين: أولئك الذين يتبنون القرآن، ويتقاسمون الأدوار بحسب علاقتهم بالقرآن.. فقد نجد فيهم من يمثل السلطة (ونعني بهم الفقهاء والعلماء)، ومنهم من يقوم بدور الجنود المدافعين عن حدود الدولة، والبقية يمثلون العامة الذين يعيشون بهدوء وبساطة في كنف القرآن..
وأما (الأجانب) فهم الذين لا يتبنون قوانين القرآن ومبادئه، ولا يشعرون بالانتماء له، ولا يخضعون لسلطته..
وأما (الغزاة المحاربون) فهم الأعداء الذين لا يكفّون عن محاربة الدولة-القرآن، بإهانتها والتعدي على حرماتها وحدودها، أو الاعتداء على مواطنيها وسلطتها.
* تقسيم د. فريد إسحاق:
أما التقسيم الثاني، فقدمه أستاذ جامعي آخر، هو د. فريد إسحاق في كتابه المنشور بالإنجليزية والفرنسية " The Qur'an: A User's Guide"، (القرآن: دليل الاستعمال). وفريد إسحاق مفكر إسلامي من جنوب أفريقيا، ودرّس في جامعات بريطانية، وعرف في السابق بنضاله ضد نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا..
يقسّم فريد إسحاق المتعاملين مع القرآن إلى ستة أصناف. وتكمن قيمة هذا التقسيم وطرافته في اعتماده على مفهوم الحب والكراهية لتقسيم المتعاملين مع القرآن. فقسّم المحبّين للقرآن إلى ثلاثة أصناف تمثل بمجموعها (الأمة) أو (النحن):
- المحب الذي لا يملك نظرة نقدية
- المحب المتدين
- المحب صاحب الروح النقدية
وقسّم (الآخرين) أو (بقية العالم) إلى ثلاثة أصناف أخرى تتعامل مع القرآن على أساس مشاعر لا تندرج ضمن أنواع الحب، وإنما تتراوح بين التعاطف وعدم الاهتمام والغيرة والكراهية للقرآن ولمن يحبون القرآن:
- صديق المحب
- الناقد
- المشكك
1- الصنف الأول (المحب مسلوب اللب): يمكن مقارنته بحال المحب الذي لا يملك نظرة نقدية تجاه محبوبته، أو لنقل لا يرغب في النظر إليها بروح نقدية. فهو قانع مكتف، وحضورُ محبوبته وجمالُها يجعلانه في حالة وجدانية تنسيه واقعه وأحزانه، وتسمح له بأن يكون في حالة من الاستقرار واليقين في عالم مليء بالاضطراب من حوله. والقرآن بالنسبة لهذا المحب يمثل كل شيء.
ولذلك فهو يستغرب حين يسأله الآخرون: "ما الذي تجده في القرآن حتى تتعلق كل هذا التعلق؟ - فيجيب: ماذا تقصدون؟ أرى فيه كل شيء، وهو يوفر لي جميع ما أحتاجه.. ألم ينزل (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (سورة النحل، 16:89؟ ألا ترى أنه (شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس 10:57)؟ فأن تكون مع القرآن يعني أن تكون مع الله".
هذا النوع من المحبّين، في غالبه، تراه مكتفيا قانعا بتلذذ هذه العلاقة مع محبوبته ولا يطرح على نفسه أية تساؤلات بخصوصها. وحين تأتيه بعض هذه التساؤلات من الخارج، سواء فيما يتعلق بشكل محبوبته، أو إن كانت ذات نسب شريف، أو ولدت في (أُمِّ القُرَى)، أو إن كانت جواهرها ودررها حقيقية وذات قيمة، فإنه يعتبر أن مبعث هذه التساؤلات هو الغيرة والحسد والرغبة في الانتقاص من جمال المحبوبة. ولذلك فهذا النوع من المحبّين للقرآن، وإن كانوا في ظاهرهم محبين عاديين إلا أن تعلقهم به شديد، وهم يتحاشون سماع مثل هذه التساؤلات لأنها تشكل لهم نوعا من الشغب الذي يشوش عليهم لذتهم في حب القرآن.
2- الصنف الثاني (المحب المتعبد): هو صنف المحبّين الراغبين في شرح مظاهر جمال محبوبتهم للآخرين، وأسباب تعلقهم بها، ولماذا يعتبرونها هبة من الله ويجب على الجميع أن يعترفوا بذلك. وهذا النوع من المحبّين يهتم بأدق التفاصيل في فضائل القرآن وأصله وتاريخه وطبيعته الأخاذة. وهذا المحب العاشق والعارف في نفس الوقت، تراه يتحسّر ويستغرب من عجز الآخرين عن إدراك جمال محبوبته، وانسجام هيئتها وغزارة حكمتها، التي تفوق الوصف وتستوجب الاحترام.
والقرآن في نظر هؤلاء المحبّين "فريد في صنعته، وليس يمنع الآخرين من إدراك ذلك والاعتراف به إلا العمى والغيرة والجهل". وهذا هو صنف العلماء المتدينين.
3- الصنف الثالث (المحب المفكّر): هو صنف المحبّين الذين يمتلكون ملكة نقدية. وهذا النوع مقتنع بسحر محبوبته وجمالها، غير أنه يرى مع ذلك أن مواجهة التساؤلات المشككة في طبيعة محبوبته وأصولها ولغتها، تمثل ضريبة حبه القوي وتعلقه الشديد بمحبوبته، بل يرى فيها أيضا فرصة لتعميق هذا الحب وتقوية هذا التعلق.
ويتميز هذا النوع من المحبّين بالقدرة على الحوار مع النوعين السابقين من المحبّين وأيضا مع الصنفين التاليين. وهو ينظر إلى الصنفين الأولين من المحبّين بنوع من عدم الرضى لأنه يرى أن محبتهما لا تؤدي إلى إبراز القيمة الحقيقية والكاملة القرآن. وهو يرى أنه لا يستطيع الاكتفاء بالنظر إلى الجوانب الظاهرة من جمال القرآن، وإنما يعتقد أن القرآن قادر على ما هو أكثر من ذلك، بحيث يجب أن يعود من جديد صانعا للحضارة والثقافة والفنون في مجتمعنا المعاصر.
4- الصنف الرابع (صديق المحب): ينتمي إلى "العالم الآخر"، عالم غير المسلمين، ويمثل خطا فاصلا بين الصنف السابق (صنف المحب ذي الروح النقدية) والصنف اللاحق (صنف المشكّك في جمال القرآن). وهذا الصنف يصفه فريد إسحاق بأنه صديق المحب، ويشبهه بحالة بعض الأصدقاء الذين ينظرون بعين الإعجاب إلى أصدقائهم الأزواج ويتساؤلون: (هل ما زال يحب أحدهما الآخر؟ وهل سيستمر تعلق أحدهما بالآخر بنفس الوتيرة السابقة؟).
تلك هي حالة الصديق غير المسلم القريب من أحد المسلمين، والذي ينظر للقرآن بعين التقدير والاحترام، ويرغب في معرفة تفاصيل أكثر عن مدى استمرار تعلق صديقه بهذا القرآن. وهذا الصنف من المتعاملين مع القرآن يسمهيم فريد إسحاق: الملاحظين المشاركين، ليس لأنهم يتبنون الإسلام، وإنما لأنهم يتبنون حساسية أصدقائهم المسلمين تجاه القرآن وتجاه الإسلام. ويشترك هذا الصنف مع الصنف السابق في المعاناة من عدم رضى الآخرين عن علاقة الصداقة بينهما، فهو متهم من قبل غير المسلمين باقرتابه من المسلمين أكثر من اللازم، في حين يتهم المسلم الذي يصادقه من قبل المسلمين الآخرين بأنه يظهر المودة لغير المسلمين.
هذا الصنف ينكر محبة القرآن ولكنه يحترمه ويشعر بالمسئولية الكبيرة تجاه مشاعر المحبّين للقرآن. ويعتبر أن جمال القرآن ظاهر في عيون محبيه وأتباعه، وإذا كان هؤلاء الأتباع يعتبرونه كلام الله، فليكن الأمر كذلك، وليُقْبَل القرآن بهذه الصفة التي يؤمن بها محبّوه.
5- الصنف الخامس (المراقب الناقد): يمكن تسميته بـ"المراقب الناقد" الذي لا يشعر بأي مسئولية تجاه مشاعر المحب، ولا يهتم سوى بملاحظة القرآن والبحث في الوقائع المتعلقة به. وهذا الصنف يقدم نفسه كباحث غير معني بإثبات أو نفي المصدر الإلهي للقرآن، ولكنه في المقابل لا يتوانى في اتهام القرآن بأنه مجرد نسخة مطورة من التراث اليهودي المسيحي.
ويرى فريد إسحاق أن هذا الصنف المتلصص، وإن ادّعى الموضوعية وعدم الاهتمام، لا يلقى ترحيبا من الأصناف الأربعة السابقة، لأن من المعروف أن الحياد في البحث المعرفي غير ممكن.
6- الصنف السادس والأخير (المشكّك الكاره): هو صنف المشككين في قيمة القرآن وجماله، وهم في العادة متعلقون بمحبوبة أخرى، كالإنجيل أو الإلحاد مثلا. ولأنهم قلقون من ازدياد أتباع القرآن ومحبيه، فهم يحاولون إثبات بشرية القرآن وأنه لا يتميز عن غيره من التجارب الإنسانية والإنتاج المعرفي البشري. وإذا عجزوا عن تحويل المسلم إلى المسيحية أو الإلحاد، تراهم يتجهون إلى التشهير وإطلاق صيحات الفزع من خطر تعلق المسلمين بالقرآن وتعاظم دورهم السياسي، وكلما رأوا سلوكا خطيرا من المحبّين للقرآن سارعوا باتهام القرآن بأنه وراء هذا السلوك: (أليس القرآن هو الذي يدعوهم للقتل؟ أليس القرآن هو الذي يجعل من المرأة ذليلة مهينة؟ إلخ."
هذا هو إذن تقسيم فريد إسحاق لأصناف المتعاملين الستة مع القرآن.. وقد فصّله كثيرا في كتابه المذكور، الذي يحتوي على كثير من الأمور الجديرة بالقراءة والتأمل، وإن كان من الممكن أن نختلف معه في بعض التفاصيل.
ولعل ما يهم التركيز عليه في ما يمكن استنباطه من هذين التقسيمين، أمور ثلاثة:
الأول: أننا نحن المسلمين نشترك جميعا في حب القرآن والتعلق به والشعور بالانتماء له.. ولكن قد يظهر حبنا بأشكال مختلفة، ويتجسد انتماؤنا بصور وأدوار متنوعة.
ولذلك، فلعلنا نخطئ إذا وجهنا اللوم لمسلمين آخرين لمجرد حبهم للقرآن بشكل مختلف عن حبنا له.
ولعلنا نخطئ أيضا إذا اعتبرنا مظهر انتمائنا للقرآن هو الوحيد المشروع.
والثاني: أن غير المسلمين ليسوا سواءً في علاقتهم بالمسلمين ومقدّسات المسلمين. ولذلك يجب التفريق في المعاملة وعدم جمعهم في سلة واحدة. وغير المسلم قد يكون غير مؤمن، ولكنه ليس بالضرورة عدوا محاربا. فالفرق كبير بين غير المكترث للقرآن والمتعاطف معه (أو مع من يحب القرآن من المسلمين)، والمحب لغير القرآن الناظر له بعين الغيرة، والكاره الذي يكيد المكائد.
والثالث: أن تقسيم فريد إسحاق يشير إلى قيمة المنطق الوجداني للبشر. وهو يذكّرنا بما أشار إليه الكاتب الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (الأفكار والمعتقدات: التكوين والتطور) من أنّ المنطق الذي يحكم تفكير الإنسان وسلوكه ليس كله عقلانيا، وإنما هو عبارة عن تركيبة معقدة من خمسة أنواع من المنطق، تتراكم وتتزاحم في نفس الوقت فيما بينها. وهي: المنطق العقلاني، والمنطق الوجداني العاطفي، والمنطق الاعتقادي، والمنطق الجماعي، والمنطق البيولوجي.
Aucun commentaire:
Publier un commentaire