2021/10/15

بمناسبة ذكرى المولد النبوي

 فكرتان بمناسبة ذكرى المولد النبوي:


1- في بشرية النبي:


"قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ.. فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا.."


ليس كل كلام النبي (ص) وحيا.. بل كلامه المتعلق بالدين فقط هو الوحي، والباقي من طبيعته البشرية.. ولذلك كان النبي (ص) يجتهد ويخطئ في بعض الأمور المتعلقة بإدارة الشؤون اليومية.. وقد تصدُر منه بعضُ الصغائر لكن لا يُقَرُّ عليها (اعترض القرآن على عدد من تصرفاته).. وعصمته في التبليغ فقط.

وفي الحديث الصحيح عن رافع بن خديج: " قدم نبي الله (ص) المدينة وهم يُأبِّرون النخل، قال: ما تصنعون ؟ قالوا: كنا نصنفه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان أحسن.

فتركوه، فنقصت، فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر." - رواه مسلم.


2- في تفاعل حكماء الجاهلية مع الوحي:


حكماء الجاهلية تفاعلوا مع القرآن، وليس مع أحاديث النبي وكلامه البشري.. ولو كان كلامه الشخصي جزءا من الوحي لكان مدخلا لإيمانهم.. ولكن هذا لم يحصل..

ما حصل هو أنهم تأثروا بالقرآن، باعتباره كلاما غير لم يعتادوا سماعه من البلاغة والفصاحة والشعر..


عن حكيمِ قريش عتبة بن ربيعة، وكان في الثمانين من عمره، أرسلته قريش إلى رسول الله (ص) فقال له: (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمتَ من السَّعَة في العشيرة والمكان في النسب.. وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم.. فاسمع منّي أَعرِضْ عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبلَ منها بعضها).


فقال رسول الله (ص): "قل يا أبا الوليد، أَسمَعْ".


فقال: (يا ابن أخي! إن كنتَ إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا..

وإن كنتَ إنما تريد شرفًا، شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك..

وإن كنتَ تريد مُلكا، ملّكناك علينا..

وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيٌ [أي مسٌّ من الجنّ] تراه ولا تستطيع أن تردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبيب، وبذلنا فيه أموالنا حتى يُبرِئَك منه، فإنه ربّما غلب التابعُ على الرجل حتى يُداوَى منه..

أو لعل هذا الذي يأتي به شعرٌ جاشَ به صدرُك.. وإنّكم لعَمْري يا بَنِي عبد المطلب تَقدِرون منه على ما لا يقدِر عليه أحد !)..

.

حتى إذا سكت عنه، ورسولُ الله (ص) يستمع منه، قال رسول الله (ص): "أفرغت يا أبا الوليد؟"..

قال: (نعم)..


قال: "فاسمع مني"..


قال: (أفعل)..


فقال رسول الله (ص): 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم {1}

تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2}

كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3}

بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ {4}

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب،ٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ {5}

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ {6}

الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {7}

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون {8}

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9}

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10}

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11}

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12}

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13}.

.

أنصت عتبة، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع، حتى انتهى رسول الله (ص) للسجدة فسجد فيها.


ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك!"..


فقام عتبة إلى أصحابه.. فقال بعضهم لبعض: (نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!)..


فلما جلس إليهم، قالوا: (ما وراءك يا أبا الوليد؟)..


فقال: (والله لقد تعلمون أنّي من أكثر قريش مالاً.. ولكني لمّا قصصتُ عليه القصة، أجابني بشيءٍ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر)؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: "مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود"، ثم قال: (وأمسكتُ بِفِيه وناشدتُه بالرّحِم أن يكفّ.. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب.. فوالله لقد خفتُ أن ينزل بكم العذاب؛ [يعني الصاعقة]..

يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيَّ، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكوننّ لِقوله الذي سمعتُ نبأٌ! فإن تُصِبه العربُ فقد كُفِيتموه بغيركم، وإنْ يَظهرْ على العرب فمُلكُه مُلكُكُم وعِزُّه عِزُّكم وكنتم أسعدَ الناسِ به)..


قالوا: (سَحرَك والله يا أبا الوليد بلسانه!)..


فقال: (هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم).

2021/05/07

التعددية الثقافية في مجتمع التعدد السياسي

هنا نص مداخلتي في ندوة ثقافية، كنت ضيفها الرئيسي في 18 جويلية 2011، في إحدى دور الثقافة بصفاقس، بحضور عدد من مثقفي الجهة..
التعددية الثقافية في مجتمع التعدد السياسي
محمد بن جماعة*
- 1 -
يتنزل الموضوع الذي أطرحه في هذه المداخلة في إطار الحراك السياسي الذي تشهده البلاد بعد الثورة، والذي أرى أنه سيستمر بقوة في إطار أعمال المجلس التأسيسي الذي نرجو أن يرى النور في شهر أكتوبر القادم.
فكما تعلمون سيكون على رأس مهام هذا المجلس المنتخب صياغة الدستور الجديد وتحديد السلطات في إطار التأسيس لدولة ديموقراطية حديثة. ومن الطبيعي أن يشغل الحديث عن الهوية الوطنية حيزا كبيرا هذه الأيام وفي فترة عمل المجلس التأسيسي القادم، لسببين اثنين يجب استحضارهما في الأذهان:
- السبب الأول: أن (الهوية الوطنية) ليست مجرد حلم غامض أو مفهوم نظري، بل هي أداة سياسية قوية وضرورية لتنظيم الجماعات السياسية وتوحيد الأفراد خلف مشروع الدولة المشتركة. وتعريف (الهوية الوطنية) يمثل المنطلق في تحديد ما يسمى بالعمق الاستراتيجي للدولة في مستوياته الأربعة: مستوى تقوية الشعور بالانتماء والتضامن بين أفراد المجتمع في داخل الدولة، ومستوى توظيف الموروث التاريخي والجغرافي في السياسة الداخلية والخارجية، ومستوى تحديد الأدوات اللازمة لضمان الأمن القومي للدولة، ومستوى البحث عن آفاق تجارية واقتصادية وشبكة علاقات دولية يمكن استثمارها بما يجعل الدولة ذات تأثير دولي في منطقتها.
- السبب الثاني: أن الحديث عن (الهوية الوطنية) يطفو على السطح وتحصل حوله التجاذبات كلما تعرض المجتمع لتغييرات اجتماعية جذرية، وخصوصا بعد الثورات، حيث ترى الأقليات في التغيير فرصة لانتزاع بعض الحقوق أو الضمانات لدعم هوياتها الخصوصية أو على الأقل لحمايتها من الذوبان في إطار الأغلبية.
لذا، فأعتقد أن من الضروري تفهّم الجدل الحاصل في تونس حول الهوية في المستويين السياسي والثقافي. ولكن من الضروري، في نفس الوقت، عدم الانجرار وراء تبسيط هذا الجدل كما يفعل البعض (بحسن نية أو سوء نية).
فنحن بحاجة لفهم الآليات التي تعمل على أساسها الهويات الوطنية:
- أولا: حتى نتمكن من إنشاء نخبة ثقافية وسياسية قادرة على صياغة مشروع وطني تونسي، على أساس الأدوات المتوفرة كالفضاء الجغرافي للدولة، والموروث التاريخي، والهويات المتراكمة والمتزاحمة في هذا الفضاء.
- وثانيا: بغرض البحث عن العناصر الملائمة لإقامة المشروع الوطني.
- وثالثا: حتى نتمكن من تكريس الهوية الوطنية في المؤسسات العامة، مثل نظام التعليم، والمؤسسات الحكومية، ولكن أيضا من خلال المظاهر الأقل ظهورا والتي توجَّه من خلالها الحياة الاجتماعية حتى تصبح الهوية الوطنية أمرا واقعا.
* * * * * * * * * * * *
- 2 -
مفهوم (الهوية الوطنية) يعتبر من المواضيع الشائكة في الدراسات الاجتماعية. وقد حاول عدد من الباحثين، في أوائل الثمانينات، تفكيك هذا المفهوم من خلال التعامل مع (الأمة) على أساس أنها "جماعة متخيلة" (Communauté imaginée)، وأن الإيديولوجيا القومية هي التي تنشئ الأمة، وليس العكس. غير أن بعض الدراسات الأخرى اللاحقة انتقدت هذا "التوجه القومي" في الدراسات الاجتماعية، معتبرة أن من الخطأ اعتبار الأمة خاصية ثابتة لدى الأفراد والجماعات، والتعامل مع الجماعات الإثنية والثقافية داخل الدولة الحديثة على أنها "جماعات متجانسة في داخلها، ومحددة في خارجها بشكل دقيق".
وفي هذا الإطار ظهر في العلوم الاجتماعية مفهوم "التعددية الثقافية" كمفهوم مقابل لمفهوم "القومية"، للتأكيد على أن تعزيز المواطنة على أساس التجانس الثقافي واللغوي (كما هو في الطرح القومي) يتعارض مع الاعتراف بالهويات والثقافات الأخرى التي يمكن أن توجد في نفس المجتمع، ويجعلها عرضة للتهميش أو الاستيعاب..
* * * * * * * * * * * *
- 3 -
يشير مفهوم التعددية الثقافية إلى الحاجات الخاصة لبعض الجماعات نتيجة لبعض سمات الهوية التي يختلفون بها عن الهوية الجماعية الغالبة في المجتمع.. وهذا يعني أن المجتمع يحتاج للتعاطي مع التعددية الثقافية كلما وجدت فيه جماعات وأقليات لغوية أو عرقية أو دينية أو قومية أو إيديولوجية، وطالما سعت هذه الجماعات للحفاظ على خصوصياتها الثقافية، إما عن طريق الحصول على اعتراف من قبل أعضاء الأغلبية، أو عن طريق إنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية مستقلة جزئيا أو كليا عن الأغلبية تساعد في دعم وحماية هذه الخصوصية الثقافية.
وتقوم سياسة التعددية الثقافية على جملة من المقولات، أهمها:
- الاعتراف بالطبيعة التعددية للمجتمع، والوجود السوسيولوجي لمختلف مكونات المجتمع
- رفض سياسة إذابة الثقافات لصالح ثقافة وطنية واحدة
- أولية القضايا الاجتماعية على القضايا الثقافية
- الاعتراف بأن المساواة تتطلب أكثر من أن تكون مساواة شكلية
- التأكيد على القيم الأساسية المتمثلة في الحقوق والحريات الشخصية، والمساواة الفردية
- تسهيل المشاركة الكاملة لجميع المواطنين في الحياة الوطنية من خلال دعم قدرات الأقليات العرقية والثقافية في المشاركة في عمليات القرار الوطني (المشاركة المدنية).
على المستوى العملي، أصبحت سياسة التعددية الثقافية سمة لعدد كبير من بلدان العالم.. وتتفاوت هذه التجارب من حيث النجاح والفشل في تحقيق السلم الاجتماعية. ومن أهم التجارب الناجحة في إدارة التعددية الثقافية: تجارب كندا والدانمارك والنرويج وأستراليا والهند وجنوب أفريقيا وسنغفورة. أما التجارب الفاشلة فأذكر منها (وهذا تقديري الخاص): الصين باعتبار قمعها للأقليات الثقافية والعرقية، والسودان الذي أدى به فشله في إدارة التعددية الثقافية إلى التقسيم في الأسبوع الماضي.
ومن الملاحظ أن التجارب الناجحة في إدارة التعددية الثقافية ارتبطت دائما بالدول ذات المرجعية الأنجلوسكسونية، والتي تعتبر حرية الفرد وكرامته هي محور فلسفتها السياسية، على عكس الدول ذات المرجعية الجمهورية التي تجعل من سلطة الدولة هي محور الفلسفة السياسية.
في التجارب الناجحة للتعددية الثقافية، يتحدد مفهوم الهوية الوطنية على أساس التنوع والتعددية الثقافية، ويقوم (كما في النموذج الكندي، مثلا) على أسس ثلاثة: القيم، والروابط، والثقافة.
1. القيم: تمثل القيم المكون الأساسي في بناء الهوية الوطنية، ويتجسد هذا من خلال القوانين الدستورية، والمواقف الرسمية الحكومية، ومختلف القوانين التشريعية. وفي النموذج الكندي مثلا، تم تحديد القيم الجوهرية للدولة كما يلي: المساواة، العدالة، الإنصاف، المساءلة، احترام التعددية، التضامن المؤدي للمسئولية الجماعية، الاعتماد على الذات.
2. الروابط: تهدف الروابط لإنشاء علاقات إيجابية بين المواطنين، من خلال توفير فضاءات لفهم الاختلافات ومحاولة إيجاد حلول لها، في ظل التنوع السائد في المجتمع.
3. الثقافة: تشكل الثقافة الدعامة الثالثة للهوية الوطنية، لأنها تخلق فضاء للتعبير عن التنوع الموجود، وفرصا لفهم هذا التنوع وقبوله، ولأنها تقول للأفراد إنهم جميعا، بذواتهم وقصصهم وتجاربهم وفنونهم وتاريخهم، على اختلاف ذلك كله، يمثلون جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والهوية المشتركة.
* * * * * * * * * * * *
- 4 -
نأتي الآن للسؤال التالي عن واقعنا في تونس:
هل يوجد تنوع ثقافي في تونس بالشكل الذي يستدعي وضع سياسة لإدارة التعددية الثقافية؟ أم أننا مجتمع متجانس ثقافيا وعرقيا ولغويا ودينيا وإيديولوجيا؟
أعتقد أن إشكالية الجدل القائم حاليا تنبع من محاولة البعض إلغاء أو تقليص قيمة بعض الأبعاد الأساسية للهوية في تونس، ومن محاولة البعض الآخر اختزال الهوية في عدد محدود من أبعادها..
نحن نحتاج للاعتراف بالفوارق الناتجة في إطار المجتمع التونسي والتي تخلق حدودا بين جماعات فرعية في إطار الجماعة الكبرى (أي الوطن). وهذه الفوارق ينشأ بعضها نتيجة للبيئة الثقافية المختلفة بين الجهات، وبعضها الآخر ينشأ نتيجة اختلاف التجارب الشخصية، وتصور الذات، والترتيب الاجتماعي، وتصور المشاعر والسلوك، وأنماط الروابط الاجتماعية، وترتيب المبادئ الأخلاقية، وأنماط التفكير، ووضعية الأقلية والأغلبية، ووضعية الهويات المختلطة أو الهويات الحدودية التي تنشأ من خلال نشأة بعض المواطنين في بلاد أخرى، أو دراستهم بالخارج، وتأثرهم بثقافات أخرى.. كل هذه العوامل تساهم في خلق تنوع ثقافي ملموس يجب أخذه بعين الاعتبار في إطار الدولة، وعدم اختزال الهوية الوطنية في عدد محدود من الأبعاد، بل يجب اعتبار تعدد الهويات في داخل المجتمع عنصر إثراء وليس عنصر تفكيك للتضامن الاجتماعي والوحدة الوطنية.
تحديد أبعاد الهوية التونسية يجب أن يتم بما يخدم العمق الاستراتيجي الذي نحتاج لتحديده للدولة. وكم هنا يمكن أن ندرك خطأ من يريدون إلغاء أو تقليص قيمة البعد العربي والبعد الإسلامي في الهوية التونسية، لأن العروبة والإسلام يشكلان جوهر العمق الاستراتيجي لتونس جغرافيا وتاريخيا وسياسيا. وفي المقابل نحتاج أيضا لاعتبار أبعاد أخرى، مثل وجود تونس في تقاطع بين المغرب العربي والمشرق العربي والذي يعطي خصوصية هامة لتونس. ونحتاج أيضا لاعتبار انتمائنا لحوض المتوسط، وللقارة الإفريقية، وأيضا قربنا الشديد من القارة الأوروبية. كل هذه الأبعاد، وربما غيرها، هامة جدا في تحديد الهوية الوطنية، من الناحية الثقافية. ومن الخطأ إلغاؤها أو تقليص أهميتها.
* * * * * * * * * * * *
- 5 -
ما هي عوامل النجاح والفشل في تجارب التعددية الثقافية؟
1- قد يوجد لدى الأفراد والشعوب المتجانسة عرقيا وثقافيا ودينيا، خوف غريزي أو طبيعي من التنوع والتعدد -ولعل الهويات الوطنية المتجذرة أو تلك التي تجد نفسها في وضعية الأقلية، هي الأكثر قابلية لهذا الخوف-، غير أن كثيرا منهم لا يرغبون في الظهور بمظهر المعادي للآخرين، وبالتالي فتجدهم يسعون للاختفاء وراء مبررات تبدو مقبولة في ظاهرها، وقد يلجأ بعضهم لاختراع أو تضخيم المخاطر الناتجة عن قبولهم، حتى في ظل قلة أو انعدام الأدلة والمؤشرات الدالة على ذلك.
2- من أهم العوامل المؤثرة في قبول سياسة التعددية الثقافية: النظرة للثقافة الدخيلة على المجتمع على أنها تمثل ثقافة يمكن التعايش معها أو لا، وذلك بناء على سلوكيات أفراد هذه الثقافة الدخيلة. فقد يكون من الصعب على بعض المجتمعات أن تتقبل فكرة التعددية الثقافية حين يكون المستفيد منها أقليات ثقافية تحمل تجاه ثقافة الأغلبية (أو المجتمع المستقبِل) نوعا من العداء الثقافي أو الاستعلاء أو الولاء المناقض له.
3- قد يرى البعض في تكريس التعددية الثقافية نوعا من "التلغيم" للمجتمع من خلال توسيع نقاط التماس بين الثقافات المختلفة في داخل الدائرة الواحدة بدل حماية الثقافة الوطنية.
4- يبدو أن نجاح تجربة التعددية الثقافية مرتبط بثلاثة عوامل رئيسية:
- يتمثل الأول في الحريات الثقافية الأساسية الممنوحة للأفراد، وقوانين الحماية ضد التمييز العرقي والديني والثقافي، والقوانين الخاصة بإعفاء الأقليات أو الاعتراف بهم ودعمهم، والتي تمثل أسسا ضرورية لضبط نزعة الأغلبية نحو الاستبداد أو نحو فرض ثقافتها على الأقليات. وبما أن قوة الوازع الأخلاقي لا تكفي لوحدها في واقع السياسة الراهن، فمن الضروري دعم هذه الحقوق بقوة القوانين الدستورية التي لا يمكن مخالفتها، والتي لا يمكن تفسيرها إلا عن طريق المحاكم الدستورية المحمية من تدخل من السلطتين التنفيذية والتشريعية.
- إنشاء المؤسسات والهيئات والبرامج والسياسات العامة التي تضع هذه القيم موضع التطبيق، والتي تسمح بوجود التنوع الثقافي وتحمي التعايش من احتمالات الاحتكاك والتوتر والصراع.
- السياسات التي تصوغ وتدعم الهوية المدنية المشتركة، في سياق ثقافي متنوع.
5- أما عوامل الفشل في مشاريع بناء الهوية الوطنية في ظل التعددية الثقافية، فهي مرتبطة بعدة أسباب أهمها:
- عدم القدرة على إدارة التعددية الثقافية بالشكل الذي يحقق السلم الاجتماعي والانسجام الاجتماعي،
- والتمييز بين الأفراد والجماعات اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا،
- وعدم توفير الحماية اللازمة لحقوق الأفراد والأقليات الوطنية،
- والقمع السياسي.
وأختم المداخلة بالقول إن التحدي الرئيسي للتعددية الثقافية لا يتمثل في تبريرها أو الاستدلال على مشروعيتها، وإنما يتمثل في تحديد درجة وحجم الحقوق والامتيازات التي يمكن إعطاؤها للأقليات الثقافية بدون إفراط أو تفريط.
Like
Comment
Share