سألني أحد الأصدقاء في مراسلة خاصة، السؤال التالي:
هل يجب على الإنسان المؤمن أن يتخلّى عن الدراسة الفلسفية للدين عندما يبلغ مرحلة معينة من اليقين،أم أنه مطالب بممارسة هذاه الفلسفة و لو أحيانا؟
ألا تعرّض هذه الفلسفة الإنسان لخطر المراوحة بين الشك و اليقين؟
فكان جوابي هو التالي، وقد رأيت نشره هنا لتعميم الفائدة، ورغبة في تصويبي إن لزم الأمر، مع إضافة طفيفة بدت لي بعد إرسال الجواب، وأثبتها هنا:
هذه المسألة يجب أن ينظر إليها من زاوية الأفراد وميولاتهم وطبائعهم ونوعية المنطق الذي يميلون إليه في التفكير.
فهناك من يتأثر بالجانب العاطفي والوجداني، وهناك من يتأثر أكثر بالنظر العقلي، وآخر يتأثر بالمنهج العلمي أكثر إلخ. فالناس تختلف طرائق تفكيرهم، وبالتالي تختلف مفاتيح قلوبهم.
هناك كاتب فرنسي شهير اسمه جوستاف لوبون Gustave lebon
كتب كتابا هاما جدا حول كيفية تكون الآراء والمعتقدات عند الإنسان. وقال فيه إن الإنسان لا يفكر بطريقة واحدة فقط، وإنما يفكر بخمسة أنواع من المنطق في نفس الوقت: المنطق العقلاني، والمنطق الوجداني، والمنطق الأسطوري، والمنطق البيولوجي، والمنطق الجماعي.
(Logique rationnelle, logique émotionnelle, logique biologique, logique mystique, logique collective)
وما يميز شخصا عن آخر هو حجم الميل لديه إلى منطق على حساب الأنواع الأخرى. فمن البشر من يغلب العقل على العاطفة، ومنهم من يغلب العاطفة على الجانب الخرافي، إلخ...
هذا الاختلاف في طرق التفكير ينطبق أيضا على فهم الدين. فمن الناس من لا يقتنع إلا بأسلوب فلسفي، ومنهم من يتأثر بالجانب العلمي، إلخ. ولذلك فلا يمكن إطلاق الحكم بالنهي عن الدراسة الفلسفية للدين، لأنها في واقع شريحة بشرية كبيرة تمثل المدخل الوحيد للاقتناع بالدين، وإلا فإنها سترفضه. والإسلام رسالة هداية للبشرية جمعاء دون استثناء. ولذلك فمن الضروري الاهتمام بمثل هذه الدراسة حتى نستجيب لتساؤلات التي تطرح على الدين من هذا الباب.
وهذا التنوع ضروري حتى يذعن كل شخص للإسلام بالطريقة التي تناسب نضجه العقلي والدرجة الملائمة لما توصل إليه من علم وخبرات وتجارب.
ولعلي أطرح هذه الفكرة عن اختلاف طرق التفكير عند البشر في مناسبة أخرى بتفصيل بإذن الله.
وعلى فكرة: قد لا يستوعب المسلم الذي يعيش في بلاد مسلمة هذا الأمر الذي أتحدث عنه بنفس الدرجة التي يلاحظها المسلم الذي يعيش في بلاد غير مسلمة. فنحن هنا في كندا، مثلا، نرى أعدادا من الكنديين يهتدون للإسلام، غير أننا نندهش لاختلاف تجاربهم وقصصهم في التعرف على الإسلام والدخول إليه.
فمنهم من اهتدى بمجرد القراءة الوجدانية للقرآن التي جعلته يتأثر ويبكي بمجرد قراءة بعض السور المحددة أو الآيات المحددة فيه. ومنهم من تأثر في قراءته للقرآن بالجانب المنطقي والفلسفي فيه (أي: المفاهيم المتعلقة بوجود الله، والأخلاق، والحق والخير والجمال، والسعادة، إلخ). ومنهم من تأثر به لأنه بحث فيه عن جوانب متعلقة بالعلم التجريبي. ومنهم من خاض تجربة زهدية أو صوفية جعلته يشعر بالطمأنينة في الإسلام، إلخ...
وهذا أيضا نراه في تجارب أشخاص مشهورين أيضا.
فروجيه جارودي الفيلسوف الفرنسي، وليوبولد فايس (الفيلسوف الألماني الذي سمى نفسه بعد إسلام: محمد أسد) والسفير الألماني السابق في المغرب د. مراد فوهمان، هؤلاء كانوا عقولا فلسفية لم يكن من السهل إقناعها بالدين والتدين. غير أن عقولها أذعنت للحق حين قرأت القرآن بمنطق فلسفي. ولو لم ينظروا للقرآن من هذه الزاوية لما أسلموا
أما د. كيث مور (العالم الكندي الشهير في علوم البيولوجيا)، ود. موريس بوكاي، وكثيرون آخرون، فقد أذعنوا حين درسوا القرآن من خلال مقارنته بالخبرات المتولدة عن العلوم التجريبية، ولو لم ينظروا للقرآن من هذه الزاوية لما أسلموا
وقل نفس الشيء عن الأنواع الأخرى من المهتدين للإسلام.
ولعل هذا بعض ما تشير إليه الآية القرآنية (سورة فصلت 53):
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
فكل فئة من البشر تحتاج لأدوات إقناع وطرق استدلال من نوع خاص يتوافق مع تركيبتها العقلية والنفسية، وما لم نتعامل معها على هذا الأساس فلن تستجيب ولن تقتنع. ولو خاطبتها بأدوات وأدلة لا تستيغها لما استجابت لنداء الحق حتى لو كانت تلك الوسائل والأدوات قوية الحجة.
بل نجد حتى بعض التجارب التي أظهرت دخول أفراد إلى الإسلام فقط من خلال المنطق الجماعي، وذلك في عهد النبي (ص). فقد أوردت كتب السيرة أن بعض القبائل أسلمت مباشرة بمجرد إسلام زعيم القبيلة، نظرا لولائها الجماعي للقبيلة. هذا حصل أيضا في عصرنا، حيث نسمع من حين لآخر بدخول بعض القبائل الأفريقية البدائية إلى الإسلام بطريقة جماعية بمجرد حديث بعض الدعاة مع زعمائها.
إذن، فمن الضروري الاهتمام المتوازن بجميع المداخل للتعرف على الإسلام. ومن واجب المسلم الداعية الذي يحمل همّ هداية الآخرين وتبليغ رسالة الإسلام، أن يتعرف على مفتاح شخصية كل واحد يتعامل معه، فهذا هو عين الحكمة والمنطق السليم، ولذلك وورد عن أحد الصحابة قوله: أُمِرْنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (رواه الزرقاني في كتاب مختصر المقاصد)
وقال علي بن أبي طالب: خاطبوا القوم بما يفقهون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟
أما عن بلوغ مرتبة الإيمان، وهل يحتاج المؤمن بعد الوصول إليها إلى العودة للدراسة الفلسفية له، فليس هناك أي حرج في ذلك، طالما كان ذلك بهدف إعادة تجديد الإيمان في القلب. وهذا ما يسميه ديكارت (الشك المنهجي). فهو لا يمارس الشك من باب التراجع إلى الوراء، وإنما من باب إعادة التدقيق والمراجعة في الخطوات السابقة، للتأكد من صوابية المسار في مستقبل الأيام.
وقد تعرض لذلك إبراهيم عليه السلام، حين قاله لربه (سورة البقرة، 260):
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فهو في هذه طرح تساؤلا علميا تجريبيا ، ليس لأنه شك أو تراجع في إيمانه، وإنما أراد ذلك لمزيد ترسيخ الإيمان .وتثبيته
وعلى فكرة: جوستاف لوبون يعتبر من أبرز علماء النفس. وهو مؤسس علم نفس الجماهير
La psychologie des foules
وله كتاب بنفس هذا العنوان
أما كتابه عن الآراء والمعتقدات،
(Les opinions et les croyances)
فيعتبر من أبرز المراجع في هذا الموضوع. ويمكن الاطلاع على كتاباته بالفرنسية وتحميلها من الموقع التالي:
http://classiques.uqac.ca/classiques/le_bon_gustave/le_bon_gustave.html
وجوستاف لوبون لم يؤثر عنه أنه كان مؤمنا. والعلم عند الله.. وهذه المسألة تقودني للتذكير بأمر قد يفيد ذكره هنا: الجانب الظاهر من حياة المفكرين قد يؤدي إلى الحكم عليهم بالإلحاد والكفر.. غير أننا عند التعرف على بعض الجوانب الخفية منها، قد نفاجأ بتغير عجيب يجذبهم إلى دائرة الإيمان.
ومن هؤلاء ما حصل للأديب الروسي الشهير دوستويفسكي، الذي لوحظ عليه اهتمام بالقرآن وهو في السجن الذي قضى فيه نحبه.
Aucun commentaire:
Publier un commentaire