2014/05/08

الإتقان وقياس الأداء والمساءلة والمحاسبة معاني غائبة او تكاد في ثقافتنا التونسية

الإتقان وقياس الأداء والمساءلة والمحاسبة معاني غائبة او تكاد في ثقافتنا التونسية.. وهذا هو جوهر النقد الذي أمارسه.. 

تذكير بتعريف الإتقان (الوارد في القرآن والسنة بلفظين مختلفين: الإتقان والإحسان): الإتقان في العمل أداء لعمل ما تتوفر فيه شروط ثلاثة:
- أولها: أداء العمل دون خلل فيه.
- وثانيها: الالتزام بمتطلبات ذلك العمل من التقيد بضوابط وتقنيات معينة ومعروفة مسبقا.
- وثالثها: أداؤه في الوقت المحدد دون تأخير.. بحيث يتمكن هذا الأداء من تحقيق الحاجات المعلنة والضمنية للمستفيد من العمل والحصول على رضاه.

هذا المعنى كان غائبا في بعض أبعاده عن تفكيري حين كنت في تونس.. رغم أنني كنت شديد الحساسية والانتباه له فيما يتعلق بالبحث العلمي وقواعد التفكير السليم... ورغم ما حاولت إنجازه في إطار عملي بتونس حين كنت مديرا لمصحة طبية.. ولكن حصلت لي صدمة ثقافية كبيرة حين هاجرت لكندا وعشت في هذا المجتمع الغربي، واضطررت للعودة للدراسة بالجامعة ثم البحث عن عمل..

ما تعلمته هنا كشف لي حجم الهوة في طرق التفكير بين ما نعيشه ونمارسه في تونس، وما يعيشه ويمارسه الغرب..

نحن في تونس فاقدون تقريبا لمعنى الإتقان.. وفاقدون تماما لمعنى المحاسبة.. ومعنى المساءلة.. ومعنى التقييم.. وفاقدون للمعنى الحقيقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي لا يقصد به محاسبة الناس في ما يتعلق بحياتهم الشخصية (طريقة لباسهم وأكلهم ومشيهم، إلخ)، وإنما يقصد به قياس الأداء الفردي والجماعي والتنبيه على مظاهر الخلل لإصلاحها..

ما لاحظته في تونس سواء قبل الثورة أو بعدها، هو أن مفهوم الإتقان وقياس الأداء والمحاسبة، والتقييم لم يطبق بشكل جيد إلا في قطاع الرياضة الذي يعمل بعقلية الاحتراف والعقلية الغربية.. والجميع يلاحظ كيف أصبح اللاعبون التونسيون يملكون القدرة على الوصول لدرجات عليا من الكفاءة في الأداء، والقدرة على قبول النقد والإصلاح والتطوير السريع، وقبول نقد المدرب وقبول خططه التكتيكية، إلخ.. وهذا ما نرى أثره في وضع الكرة التونسية على المستوى العربي والإفريقي والدولي، ووضع اللاعبين التونسيين وقدرتهم على اللعب في بطولات دولية راقية..

قطاع الرياضة في تونس هو الوحيد تقريبا الذي نجح في تجاوز عقد ثقافتنا التونسية المتواكلة، المتهاونة، الراضية بالموجود، والمتواطئة على الكسل والتراخي وعدم احترام ضوابط الإتقان (في الوقت، والتخطيط والممارسة والمساءلة والمحاسبة والإصلاح...)..

في ما عدا ذلك من أطر العمل الجماعي، سواء كانت أحزابا سياسية أو جمعيات مدنية، ما زالت توجد سلوكيات خاطئة وطرق تفكير منحرفة، وأساليب تضامن بين الأفراد غير سليمة.. وهي ما نحتاج للتركيز عليها من أجل المصلحة العامة لفرق العمل الصغيرة، وايضا للمصلحة العامة للتوانسة عموما.. وقد ذكرت عدة مرات أن من مصلحة المشهد السياسي في تونس، مثلا، أن تكون فيه جميع الأحزاب قوية، وديموقراطية، وذات قاعدة شعبية عريضة، وتدار بعقل إداري محترف، وتتخذ مواقف سياسية ذكية وعميقة ونافعة في التدافع العام.. نفس الشيء بالنسبة إلى الجمعيات المدنية.. مثل كرة القدم: لا يفيد وجود فريق قوي ومحترف في بطولة ضعيفة فيها فرق ضعيفة.. ما يفيد هو وجود بطولة قوية عموما، فيها الكثير من الفرق القوية والمحترفة.. نحن إذن نحتاج لعقلية تنافسية الجميع فيها رابحون (Gagnant-Gagnant)، وليس فيها رابح وخاسر..

في هذا الإطار، أريد أن يفهم الجميع طبيعة نقدي للنهضة ولغيرها من الأحزاب أو المنظمات.. فنقدي لا يهدف للتدمير أو الانتقاص.. وإنما يهدف للتحدي الفكري والسياسي والسلوكي، والوقوف عند الأخطاء والسلوكيات الخاطئة، كي يدرك اصحابها وجود الخطأ ويتوقفوا عنده بالدراسة والتقييم والبحث عن حلول والإصلاح..

ومن يظن أو يتوهم أو يزعم أن ما يحصل في هذه الأيام الأخيرة هو نتيجة تحيزي السياسي ضد النهضة، أو عقدة نفسية تجاهها، أو رغبة جفينة في الانتقام بعد استقالتي منها، إنما يمعن في الخطأ والتفكير المنحرف عن الصواب.. 

ليست لدي أي "عقدة" لا نفسية ولا فكرية ولا سياسية تجاه النهضة أو قيادة النهضة أو أعضاء النهضة أو مشروع النهضة.. ولا تجاه المؤتمر ولا غيره من الأحزاب.. أنا معني بالتغيير والإصلاح والتطوير وخلق مجال تنافسي على الخير في الواقع التونسي عموما.. ولذلك فقد كنت منفتحا على النهضة وعلى المؤتمر وكثير من الشباب غير المسيس.. أتعامل مع الجميع بنفس الحرص عليكم وإرادة الخير لكم، وحب التعاون معكم.. للمساعدة بما اقدر في النمو الروحي والنفسي والعقلي ووالمعرفي والسلوكي للتوانسة عموما..

ما أنقد فيه النهضة وغيرها من الأحزاب، ليسن لاستغلال نقاط ضعفهم، أو لتوظيفها، أو لتدمير صورتهم العامة وتحبيطهم.. وإنما هو نابع مطلقا من إرادة تطوير القدرات التونسية، وخروج أعمال الجميع في أحسن شكل ممكن.. ولا علاقة لهذا الأمر بالنهضة في حد ذاتها.. وإنما يشمل الجميع تقريبا: المؤتمر، وفاء، الجبهة، إلخ..

ولذلك، فسأواصل النقد بنفس الشكل ونفس الحرص ونفس المحاسبة ونفس المراقبة..

ومثلما قلت سابقا: النقد أساسه تجريح، يعني أنه عبارة عن جراحة.. لذلك فهو مؤلم.. والطفل الصغير عداة يرفض الجراحة خوفا من الألم وتفاديا له.. أما الكبير فيفترض أن يقبل بالألم ولو على مضض، لما يدركه من قيمة الجراحة في عملية العلاج والإصلاح..

هذا ما حصل لي حين أتيت إلى كندا، فعانيت الكثير من النقد بسبب سلوكياتي الخاطئة في التعلم والتفكير والممارسة والإدارة وإدارة مصاريفي المالية، وعملي في إطار الجمعيات، إلخ.. ما حصل لي كان زلزالا ثقافيا أربكني لعدة أشهر.. وربما لسنوات.. ولكنني في الأخير أدركت قيمة ما تعرضت له، وقبلت به، وألزمت نفسي بقبول النقد والملاحظات وتعلمت منها وغيرت من عاداتي السلوكية والفكرية.. لكي أصل لما أنا عليه.. بدون أن أدّعي الكمال أو الرضا التام.. فأنا متعلم دائم.. وما زلت أكتشف الكثير في بواطن عقلي ونفسي، وترسباتي الثقافية.. وأرجو أن أستمر في تجاوزها يوما بعد يوم..

أرجو أن يكون هذا الأمر واضحا.. مرة أخرى..

محمد بن جماعة

2014/05/02

الرؤية القرآنية للعالم ومفهوم الحياة الطيبة من خلال سورة النحل

مقالي المنشور في مجلة الإصلاح التونسية بتاريخ 02/5/2014
الرابط: http://alislahmag.com/index.php?mayor=contenu&mayaction=article&article_id=852&idlien=189


يندر أن تجد أحدا منا، نحن المسلمين، لا يعاني من اضطراب في العلاقات سواء في الأسرة أو في دائرة الأصدقاء أو في العمل.. ويندر أن يعيش أحدنا بدون خلافات ونزاعات وخصومات يصل بعضها لدرجات مدمّرة نفسيا واجتماعيا..

وفي المقابل، يقول الله عز وجل في سورة النحل (آية 97): "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". فلماذا نعاني في حياتنا اليومية من كثرة المشاكل والخلافات والقلق، رغم إيماننا وعملنا الصالح؟ هل نحتاج لإعادة نظر وإعادة ترتيب في رؤيتنا للحياة لتحقيق معنى "الحياة الطيبة"؟

سورة النحل، قرأتها سابقا عشرات المرات.. إلا أنني شعرت في الأيام الفارطة كأنني أقرأها للمرة الأولى.. وجدت أن السورة ملخص كامل للقرآن الكريم.. وقارنت محتواها بما قرأته سابقا عن مفهوم "رؤية العالم" الذي يعتمده الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة منذ أواخر القرن التاسع عشر.. وقارنت محتواها بخلاصة علم النفس الفردي، فوجدت أن توجيهات السورة تلتقي كثيرا مع ما تدعو له هذه المعارف الجديدة..

هذا الأمر ينبه إلى الحاجة لتجديد فهمنا للقرآن وتنويع زوايا النظر على ضوء المعارف الجديدة:

1. فتطور المعارف حول الطبيعة والنفس البشرية، واكتساب معرفة إضافية، يدعونا لمراجعة بعض القضايا بما يتفق وهذا الجديد من العلم. والقضايا الدينية عموما لا تخرج عن هذه القاعدة. فنحن بحاجة أحيانا لإعادة قراءة القرآن من زوايا جديدة اعتمادا على تطور معارفنا.
2. أضف لذلك، أن مهمتنا كأجيال أتت بعد الجيل الأول للإسلام لا يمكن قصرها على مجرد جمع أقوال الجيل الأول وحفظها وشرحها وشرح الشروح عليها.. وإنما نحن مكلفون أيضا بخدمة (الحق والدعوة إلى الله) بالمعارف الجديدة التي نكتسبها، خصوصا وأن الكفر والإلحاد والتشكيك في حقائق الدين أمر قائم ودائم، ويجدد وسائله ومقولاته ويبتكر أدوات معرفية جديدة، يتحدى بها الإيمان، وهذا يفرض علينا التعامل معه وفق المستجدات والمتغيرات، وتحديه بأدوات معرفية جديدة..

2. ما المقصود برؤية العالم؟
هو اصطلاح يستعمل لعرض وجهة نظر شمولية لفرد مّا أو لمفكر أو جماعة، حول الكون والعالم والحياة، وحول المشكلات والقضايا التي تتعرض لها الإنسانية في واقعها.. ويعرّفها الفلاسفة بأنها مجموعة متجانسة من المفاهيم تسمح "بصياغة تصور عام للعالم والحياة، وصياغة فهم لأكبر عدد ممكن من عناصر الخبرة والتجربة الحياتية".

ويشترط الفلاسفة لكي تكون الرؤية كاملة، أن تجيب عن ستة أسئلة جوهرية لتشكيل "رؤية للعالم":

1. سؤال الواقع، ويمكن التعبير عنه بسؤال "ماذا؟": ما هي طبيعة عالمنا الذي نعيش فيه الآن؟ ما هي تركيبته؟ وكيف يتم توظيفه؟ ما هي علة وجود شيء، وعلة انتفاءه ؟ إلخ.
2. سؤال الماضي والأحداث السابقة والبدايات: كيف نشأ العالم؟ ومن أين؟ ولماذا أصبحت وضعية العالم على ما هي عليه الآن، ولم تتخذ شكلا مختلفا؟ وما هي المبادئ التفسيرية العامة التي يمكن تطويرها حول نشأة الكون والعالم والحياة على الأرض؟
3. سؤال المستقبل: إلى أين؟ ما هو مصير الحياة في هذا الكون في المستقبل؟ وما هي السيناريوهات المتاحة للبشرية؟ وكيف نرجّح بينها، وندفع باتجاه معين ونتحاشى غيره؟
4. سؤال القيم والأخلاق: ما هو الخير وما هو الشر؟ وما هي غاية الحياة؟ ما الذي ينبغي أن نناضل من أجله؟ وبأي وسائل نناضل؟ وما هي الوسائل التي نتجنبها؟
5. سؤال الفعل والسلوك الإنساني: كيف ينبغي أن نتصرف؟ وعلى أي مبادئ نؤسس فعلنا وسلوكنا؟
6. سؤال المعرفة: كيف نكتسب المعرفة، ونصوغ تصوراتنا؟ وكيف نتأكد من صوابية معرفتنا ونبرهن عليها؟ وبأي لغة وأدوات نصوغ هذه المعرفة ؟
7. ثم يقترحون سؤالا كليا شاملا وهو: من أين نبدأ، للإجابة عن كل الأسئلة السابقة؟ وما هي المنهجية؟

3. أنواع رؤى العالم

يمكن أن نجد رؤية دينية (منطلقة من أسس دينية، مثل الرؤية الإسلامية، الرؤية المسيحية، الرؤيو البوذية)، أو رؤية إيديولوجية وفلسفية (مثل الرؤية القومية، الشيوعية، النازية، الليبرالية، الاشتراكية). وتوجد رؤى فرعية من كل الرؤى الكبرى (مثل الشيعة والسنة، والسلفية والصوفية، والكاثوليك والبروتستانت، والقومية البعثية، والشيوعية التروتسكية واللينينية، والليبرالية، والاشتراكية المسيحية، والاشتركاية الديموقراطية).

وكما نلاحظ، فمفهوم رؤية العالم قريب جدا لعلم الفرق والملل والنحل، الذي كتب فيه بعض العلماء (عبد القاهر البغدادي، وابن حزم، الشهرستاني، النوبختي).. ولكن كتابتهم لم تكن ممنهجة بل تجميع للفروقات البسيطة والمركبة.

4. هل هناك ضرورة لامتلاك رؤية للعالم؟

صياغة "رؤية للعالم" تلبي احتياجات نفسية واجتماعية حقيقية.. ومن يملك رؤية دينية أو فلسفية واضحة للعالم، يكون أقل شعورا بالقلق الوجودي واليأس وضعف الثقة بالنفس.
والإيمان والعقائد الدينية من أهم العوامل في تحصيل السعادة لأنها تضفي معنى على الحياة والوجود، وتملأ النفس بالأمل والثقة، وتعطي تفسيرا عميقا للآلام والمعاناة، وإحساسا بالانتماء إلى كيان أكبر.
وعلى هذا، فنحن جميعا بحاجة ماسة إلى رؤية ما للعالم، ولو لم تكن كاملة الوضوح، وبحاجة أيضا لأن يكون لدينا بعض عناصر الإجابة لكافة التساؤلات المتعلقة بالكون والحياة.

5. الرؤية القرآنية للعالم من خلال سورة النحل

آياتها: 128.. سورة مكية ماعدا الآيات 126-128 فمدنية. نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة نوح.

1) السورة خلاصة شبه كاملة للرؤية القرآنية للعالم، وتجيب عن الأسئلة الستة. وتدعو الإنسان للنظر والتأمل في كل ما يحيط به في الحياة، وإدراك ما وفره الله للإنسان لبناء "الحياة الطيبة" على الأرض بشكل عام.. وتعطيه إجابات سريعة ومركّزة عن كل ما يحتاجه لبناء رؤيته للكون والعالم والحياة.

2) تبدأ السورة بالحديث عن المدخل لامتلاك الإجابة السليمة عن التساؤلات الكبرى للحياة حتى لا يبقى الإنسان حائرا ضعيفا أمامها: كيف وجدتُ في هذه الأرض ولماذا؟ وماذا عليّ أن أفعل؟ وما هو مآلي بعد الموت؟ وكيف أتعامل مع الخير والشر؟ إلخ.. فتذكر أن المدخل الوحيد هو الوحي والنبوة، ولا يمكن لأي مدخل معرفي آخر أن يوفر الإجابة السليمة عن هذه الأسئلة: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.. يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ). وبالتالي فسؤال وجود الله وصفاته لا يمكن الإجابة عنه لا بالعلم التجريبي ولا بالفلسفة وإنما بالوحي والنبوة.

3) ثم تنطلق في بيان الرؤية، منذ بدايات الخلق (سؤال الماضي والبدايات): فالسماوات والأرض خلقتا بِالْحَقِّ (في غير عبث).. تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.. والإنسان خلق من نطفة (من قطرة ماء صغيرة). ولكنه سيصبح تدريجيا خصيما مبينا، مجادلا بعقل ولسان، قادرا من خلالهما على التفكير والبيان والتواصل مع الآخرين.

4) ثم تتحدث السورة عن أدوات الحياة التي وفرها لله للإنسان (سؤال الواقع): الحيوانات (الأنعام، الخيل البغال، الحمير)، ووظيفتها المباشرة (الغذاء والملبس والتنقل وحمل الأشياء التي يصعب على الإنسان حملها بنفسه) ووظيفتها غير المباشرة (كأداة للتأمل في طريقة حياتها وحركتها، لاختراع الأشياء على شاكلتها، إلخ).. ثم الماء والزرع، ومظاهر التنوع والجمال في الطبيعة والحياة، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).. وتسخير البحر للطعام واستخراج حلي الزينة، وأهمية الجبال والأنهار والمسالك والطرقات، وعلم الفلك للاهتداء بالنجوم. (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.. وَعَلامَاتٍ.. وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)

5) ثم تتحدث السورة عن أدوات الفعل الإنساني التي وفرها الله للإنسان: السمع والبصر والعقل، والمعرفة. وتبشّر مَنْ أحسن استخدامها (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ طَيّبِينَ..)، وتحذّر من يسيء استخدامها (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ).

6) ثم تتحدث عن دور الرسل في الهداية، وتصحيح الانحرافات عبر التاريخ البشري، وإعادة تصحيح البوصلة نحو الله، والدعوة لاجتناب الطغيان المادي والسياسي والاجتماعي والإفساد في الأرض: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱلله وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ".. "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ"

7) وتذكّر بنعم الله.. وحق الشّكر له والاعتراف بفضله وضرورة عبادته: "وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱلله". "وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها".. وتذكّر بأهمية حفظ مقام الألوهية والاعتراف بوجودها والإذعان لها: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)..
ثم تعطي نماذج للمستكبرين وشرك الكفار وإنكارهم للنبوة، وتحذّر من نموذجهم.. وتجمع في السياق بين الإيمان بوحدانية الله والإيمان بالآخرة. بل تجعل أحدهما دالا على الآخر فلا يمكن الإيمان بوجود الله دون الإيمان باليوم الآخر والبعث والجزاء: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَالذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)..
ثم تتحدث عن المشيئة الإلهية ومفهوم القضاء والقدر.. وتنفي مفهوم الإجبار، وتقرّر أن الله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر.. ثم يترك لهم حرية الاختيار.
ثم تتحدث عن موقع المرأة في المجتمع، وتصحّح المفاهيم الخاطئة حولها، وتدفع الظلم الذي كانت تعاني منه في المجتمعات البشرية المنحرفة: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم). وتنبه على قيمة مؤسسة الأسرة والزواج كإطار سليم للحياة.

وتنبه على أهمية تكريس التعاون في إطارين:
1. إطار المجتمع بما يوفر للجميع الرزق وأسباب العيش الكريم تضرب الأمثال لشرح سبب الاختلاف في الرزق (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْق فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)
2. إطار الزواج، وإنجاب الأبناء لضمان استمرار الحياة البشرية وعمران الأرض: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً)

ثم تشير لأهمية البيت والمسكن والملبس كضرورات للعيش الكريم، وتسخير الأدوات لذلك من الطبيعة التي وفرها الله في الأرض، مثل صناعة الملابس من جلود وصوف الحيوانات، واستعمال حجارة الجبال في البناء..
ثم تتحدث السورة عن سؤال الفعل والسلوك (السؤال الخامس)، وأهمية الأخلاق والنهي عن نقض الوعود. والأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وتختم السورة هذه الرؤية القرآنية بست إشارات هامة:
1. الإشارة إلى أن هذا الإطار العام لرؤية العالم هو الكفيل بتحقيق الحياة الطيبة في الأرض.. وأن البشرية مأمورة باتباع هذه الرؤية لتحقيق وظيفة "عمران الأرض" التي خُلِق الإنسان من أجلها.. "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"
2. أن الرافضين للالتزام بهذه الرؤية الربانية للعالم مآلهم الخسران في الدنيا والعقاب في الآخرة، باعتبار أن أي رؤية مخالفة ستنحرف جزئيا أو كليا عن المهمة الأساسية للإنسانية في الأرض.. (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.. وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).. وتذكر السورة أنّ أهمّ مثال بشري على الانحراف عن هذه الرؤية القرآنية هو نموذج بني إسرائيل ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
3. أن المخالفين للرؤية القرآنية للعالم نوعان: مخالف مُعرِض جاحد تماما.. ومخالِف مُكْرَهٌ على ذلك، بشكل من الأشكال.. وتبيّن الفرق بينهما: "مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.. أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ".
4. أن هذه الرؤية القرآنية للعالم ليست حكرا على أتباع الإسلام، بل هي في الأصل إعادة إحياء لنفس الرؤية التي أوحى بها الله للأنبياء السابقين.. وتذكر إبراهيم (ع) كنموذج أمثل للإنسان الذي عاش حياة طيبة، متمثلا الرؤية القرآنية كاملة، وتطلب من محمد (ص) وأتباعه اتّباع نموذج إبراهيم (ع): (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ.. اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
5. أن البشرية ستشهد اختلافا كثيرا حول رؤية العالم، ونزاعا بين الملتزمين بالرؤية القرآنية، والرافضين لها.. وأن الحل في ذلك بالحوار وليس بالحرب والصراع: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).. وتبيّن أن هذا الاختلاف ستشوبه كثير من الانفعالات والمشاحنات النفسية التي قد تؤدي لتبادل العنف والعدوان.. وأن من المنطقي أن نعامل المعتدي بالمثل.. ولكن الصبر أفضل، لأهمية ضبط المشاعر ومقاومة الانفعالات، وكبح النزعة نحو العنف: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
6. تدعو المؤمن للالتزام باستحضار القرآن الكريم في حياته اليومية، لأنه الكتاب الذي يلخص له الرؤية السليمة للكون والعالم والحياة، ويساعده على تحسس الحلول الحقيقية لمشاكله وقضاياه، ويحميه من الانحرافات المحتملة عن الطريق.. وتخبره بأنه سيتعرض للوساوس التي تشككه في صدقية ووثاقة القرآن، وتشككه في صلاحيته للزمن ومتغيرات الواقع، وتوهمه بعجز القرآن عن الإجابة عن التعقيدات الجديدة للحياة في كل عصر وكل بلد كل مجتمع: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
السورة إذن تشكّل خلاصة كاملة لرؤية العالم الإسلامية.. بل وخلاصة أيضا للقرآن الكريم ذاته. وقد أتت في أسلوب فني بليغ وعميق في غير تعقيد، يفهمه الإنسان أيا كان عصره وزمانه وبيئته ومعرفته..

6. الحياة الطيبة في سورة النحل

نتوقف عند مفهوم "الحياة الطيبة".. يقول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).. هذه الآية تقرر جملة من القواعد:
1. أولها: أن البشرية تتكون من جنسين (ذكر وأنثى)،
2. أن هذين الجنسين متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما بالله، وفي جزائهما عند الله.
3. وبالتالي فإن هذه المساواة في قاعدة العمل والأجر تقتضي التعاون بين الرجل والمرأة.. ولا يمكنها أن تؤدي لمجتمع أبوي/ذكوري.
4. وأن المطلوب في الحياة هو أداء الدور والوظيفة بالشكل السليم (العمل الصالح)، من أجل البناء والإصلاح، وليس من أجل التدمير والإفساد..
5. وأن هذا العمل الصالح وأداء الدور في الحياة يكفل، لمن يقوم به وللمجتمع، حياةً طيبة في هذه الأرض
6. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.

7. ماذا يقول علم النفس؟

علم النفس يهدف لتفسير آليات الطبيعة الإنسانية، وتشكّل الشخصية، ودراسة السلوك الإنساني، والعوامل التي تجعله يختار طريقةً دون غيرها في مواجهة مشاكله الاجتماعية والثقافية. ويوجد اتجاهان رئيسيان في التحليل النفسي:
1. المدرسة الكلاسيكية (فرويد)، والتي تفسّر السلوك البشري بمفاهيم الغرائز، واللاشعور، والعُقَد الجنسية، والحتمية البيولوجية. وتعتبر أن الإنسان كائن بيولوجي. ويؤكد على أهمية الحاجات البيولوجية. وأهمية الغرائز، والأهمية القصوى للجنس. وأن الإنفعالات لا يسيطر الفرد عليها. وأن الشخصية مكونة من الأنا الأعلى والأنا والهوَ والغرائز. وأن العُقَد الجنسية أمر مشترك بين جميع الأطفال.
2. المدرسة الحديثة (يونج، آدلر، إيريك فروم)، والتي تفسر السلوك البشري بالعوامل الثقافية والاجتماعية والتعليم، وتطوير الذات، وأنماط الشخصية. وتعتبر أن الإنسان كائن اجتماعي. وتؤكد على أهمية الحاجات الاجتماعية. وأهمية الميل إلى الانتماء إلى جماعة. وإمكانية ضبط الانفعالات والسيطرة عليها، والشخصية تخضع لأنماط أساسية.. والجنس أقل أهمية مما يتصوره فرويد، والعقد الجنسية استثناء وليس ظاهرة عامة..

وسنركز على مدرسة آدلر باعتبارها الأكثر انتشارا وتأثيرا في الخمسين سنة الأخيرة.. وتمثل الأساس النظري لكل النظريات المعاصرة حول القيادة، والتنمية البشرية وتحسين الأداء الفردي، وإدارة التغيير، والإدارة بالأهداف، وحل المشكلات في العلاقات الاجتماعية والزوجية، والبرمجة العصبية، إلخ.. ونعرض في البداية لـ"معنى الحياة" عند آدلر:

يرى آدلر أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا إذا عرف أن لحياته معنى.. وهذا المعنى محصّلة جهد معقّد ومتراكم، وهضم عقلي ونفسي وثقافي، تبدأ منذ الرضاعة. وكثيرا ما يتغير المعنى الذي نحمله عن بعض الحقائق من فرد لآخر، وحتى لدى الفرد نفسه من فترة عمرية لأخرى، نتيجةً لتغير الخبرات وتطورها وتنوعها، ونتيجة المراجعة الذاتية وتصويب الرؤية الذاتية وإصلاح السلوك الذاتي.
ويرى أن سؤال "ما معنى الحياة؟" سؤال قديم قِدَم الإنسان نفسه.. وكثيرون يتهربون من طرحه ولا يصدّعون رؤوسهم بسبب الاستغراق في هموم الحياة اليومية.. وينتبهون إليه فقط حين يمرون بأزمة أو بمكروه أو إحباطات وتجارب فاشلة، أو يعيشون موت أحد الأهل والأقارب والأصدقاء.

ويرى أن الحياة وضع اضطراري لا نختاره.. فنحن نولد دون اختيار فنجد أنفسنا في هذه الحياة.. ثم نجد أنفسنا نعيش تحت ثلاثة ظروف اضطرارية تشكّل معنى الحياة وتتسبب في كل المشاكل التي تواجهنا:
1. الظرف الأول: أننا نعيش على سطح كوكب صغير جدا، ومجبرون أن نعيش في حدود ما يوفره من موارد طبيعية محدودة، وأن نحاول تطوير هذه الموارد واستخدامها أحسن استخدام في حدود معارفنا، وأن نقوم بتطوير أجسامنا وعقولنا للاستمرار في الحياة على الأرض.
2. الظرف الثاني: أن الضعف المميز للفرد ومحدودية قدراته تجعل من المستحيل تحقيق أهدافه في الحياة بمفرده أو بمعزل عن الآخرين.. ولذلك فكل فرد عضو في جماعة البشر المحيطين به، ووجوده مرتبط بوجودهم.. وبالتالي فأعظم منحة يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان هي منحة "الزمالة" (أو الأخوة). والحاجة لوجود الآخرين ليس فقط لإشباع الحاجات المادية وإنما أيضا لإشباع الحاجات المعنوية اللازمة لاستمرار الحياة..
3. الظرف الثالث: إن الجنس البشري يتكون من رجل وامرأة، وبقاء الجنس البشري واستمراره يعتمد على كليهما، ولا يمكن للرجل ولا للأنثى الاستمرار في الحياة دون الآخر.
من هنا، يستنتج آدلر أن المشكلات الثلاث في حياة الفرد هي: العمل (الوظيفة/الدور)، العلاقة مع باقي أفراد المجتمع، والزواج.. وأن الحل المشترك لهذه المشكلات هو "التعاون" وليس الصراع.. وكل فرد يحقق "الحياة الطيبة" بمقدار نجاحه في "التعاون"، ويبتعد عنها بمقدار فشله وقصوره في "التعاون".
ويرى أن الخبرة والمهارة الأساسية في التعاون تتشكل حسب الأدوات والظروف والخبرات المتاحة في 3 مراحل عمرية: الطفولة الأولى والمدرسة والمراهقة. ويمكن تهذيبها فقط بالتدريب..

أما المفاهيم الأساسية لنظرية لآدلر فتتلخص في ما يلي:
1. يرى آدلر أنه لا توجد حتميات بيولوجية، وإنما توجد غائية في حياة الفرد، تجعله يسعى بفاعلية لتحقيق غايات وأهداف لبلوغ التميز والكمال.
2. ويرى أن الفرد كائن اجتماعي بالفطرة.. وشخصيته وطبيعته الداخلية تتشكلان من خلال المعايير الأخلاقية والثقافية، بتأثير من من الروابط والعلاقات الاجتماعية. وأن طريقة تفكير الفرد ودوافعه السلوكية تتشكل بتأثير من ظروفه الاجتماعية والاقتصادية ومعتقدات الدينية والعلاقات الإنسانية التي تشكل مشاعر انتماءه للجماعة.
3. الإنسان لا يحتاج للاستقرار والهدوء، بقدر ما يحتاج للكفاح والتوتر الإيجابي وإنفاق الجهد والطاقة من أجل الأفضل.. والدافع الأساسي للتفوق والتنافس والكمال ليس الجنس (كما يقول فرويد)، وإنما مشاعر النقص والعجز هي التي تمثل الدافع في كل تقدُّمٍ وصلت بشري. وبالتالي، فأغلب المشاكل التي يتعرض لها الإنسان حين يبحث لنفسه دورا في المجتمع أو وظيفة أو عملا، فجذورها تعود بالأساس لكيفية إدارة مشاعر الضعف والنقص وتحويلها إلى حافز، وهذا يتحقق أساسا بتأثيرات الأسرة والمدرسة والميول الأولى.
4. الفرد يحتاج للحب والعاطفة. ولذلك فهو يكافح من أجلهما. وأغلب مشكلات الأسرة والزواج تعود إما للأخطاء في تعريف الحب ومقتضياته، أو الأخطاء في الربط بين مفاهيم الحب والتعاون والاهتمام الاجتماعي، أو نتيجة ما نستخلصه من تجربة آبائنا وتقييم علاقتهم الزوجية، أو لأخطاء فهم الدور الاجتماعي والنفسي للزواج، أو لقصورنا في امتلاك المهارات لحل المشاكل.
5. والفرد يحتاج أيضا للاهتمام الاجتماعي. ولا يستطيع الانفصال عن الالتزامات الاجتماعية.. والميولُ الاجتماعية تعويضٌ حقيقي يقوم به الفرد تجاه الآخرين بسبب ما يعانيه من ضعف ذاتي طبيعي. ولذلك فلديه استعداد للتضحية بطموحه الشخصي وأنانيته، وللعمل من أجل الصالح العام والمثل العليا تعويضا عن ضعفه.. وهذه النزعة الفطرية لا تظهر تلقائيا بل تحتاج للتوجيه والتدريب.
6. يوجد لكل لفرد مبدأ أساسي يحدّد أسلوب حياته ويفسّر خصوصيته وتميّزه عن بقية البشر.. وهذا المبدأ يتحدد في مرحلة الطفولة المبكّرة لأن مركز الفرد في الأسرة وترتيبه في الولادة يطبع نفسيته وأسلوب حياته. وكل المصاعب التي تعوق نموه تنشأ من شدة المنافسة وقلة التعاون في الأسرة..

وكما نرى، فإن أدوات علم النفس الفردي تلتقي كثيرا مع الإطار العام لمفهوم "الحياة الطيبة" في سورة النحل.

8. خاتمة: سبب تسمية سورة النحل

يقول تعالى "وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.. ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ.. فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً.. يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.. فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ".
ربما هي دعوة للانتباه لنمط حياة النحل وتنظيم مملكته القائم على التعاون والتكامل وعدم النظاع والخصومة من إخراج أفضل ما فيه، أي العسل.
وربما هي إشارة أيضا بقوله تعالى "وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ"، إلى أن الغائية في الحياة هي نوع آخر من الوحي، مثلما نرى الغائية في حياة النحل. فهي تشير إلى اتباع النحل لإرشادات إلهية فطرية لتنفيذ ما كلفت به بدقة "ٱتَّخِذِي.. كُلِي.. فَٱسْلُكِي."

محمد بن جماعة

2014/04/23

السياحة الثقافية في تونس.. أفكار عملية

مقالي في موقع نواة، بتاريخ 23/4/2014


في تونس العاصمة مؤسسة اسمها "مدينة العلوم".. وبحكم استقراري في المهجر منذ فترة طويلة، لم يتيسر لي زيارتها لحد الآن، ولا أعرف طبيعة خدماتها، ومدى التجديد الحاصل في مضامينها، وجودة ما تقدمه للزوار وخصوصا الطلبة والتلاميذ والعائلات في إطار التعريف بالعلوم.. ولكنني زرت في اليومين الأخيرين مركز العلوم بتورنتو الكندية (Onatario Science Center) فوجدته أعجوبة في تبسيط العلوم للعامة، وأثار في نفسي لذة ومشاعر طيبة، وفي ذهني أفكارا هامة.. وتمنيت لو وجد مثله في تونس..

يتكون المركز/المعرض من مركّب ضخم بـ6 طوابق، كل طابق فيه عدد من العلوم والقضايا العلمية: الطاقة والكهرباء، الميكانيك، الذرّة، الزراعة، الأغذية، الطب، علوم الفضاء، الجيولوجيا والمعادن، البيولوجيا، علم الأحياء، بداية الكون، الكواكب، الاختراعات الكبرى، نظرية الألوان، خلق الإنسان، تفسير أهم الأمراض، تشريح الأعضاء، تنمية عضلات الإنسان، تفسير الظواهر العلمية والطبيعية مثل الريح، والمطر، والجاذبية، والحرارة، وتخلّق الجنين في بطن الأم، واختلاف ألوان البشرة لدى الإنسان، إلخ..

مئات المواضيع بشكل مبسّط وفني وعملي يفهمه الكبار والصغار.. وأغلبها في إطار ترفيهي وألعاب تطبيقية وشرائح ورسوم بيانية وفيديوهات، وأرقام وإحصائيات، ومسابقات خفيفة من قبيل "هل تعلم؟" و"اختبر ذكاءك"، و"الحقيقة والخيال" و"الحقيقة العلمية أمام الأساطير الشائعة" و"الحقيقة العلمية أمام الشعوذة والدجل"، إلخ.

وفي المعرض أيضا قاعة سينما فريدة من نوعها تسمى (Ominmax) يتم فيها عرض بعض الأفلام الوثائقية العلمية الرائعة. وشاشة العرض عبارة عن قبة ضخمة تحيط بالمشاهد، فيراها من أمامه ومن خلفه ومن فوقه وعن يمينه وعن شماله، فتعطيه انطباعا بأنه داخل الفيلم وجزء منه.. والفيلم الذي شاهدته مع العائلة كان بعنوان: "جيروزالم" (القدس)، ويروي تاريخ ومعالم مدينة القدس من زاوية نظر ثلاث فتيات من أهل المدينة: مسلمة ويهودية ومسيحية.

وفي المعرض أيضا جناح دائم كبير خاص بتاريخ العلوم، عنوانه "سلاطين العلم".. وفوجئت أنه من تمويل ودعم ثقافي من مركز نور الثقافي بتورنتو (مركز ثقافي إسلامي يشرف عليه أستاذ جامعي من أقارب المفكر الإيراني سيد حسين نصر).. ويعرض إسهامات العرب والمسلمين في تاريخ العلوم، بشكل فني رائع ومبسط..

وفي المعرض، يتم تنظيم زيارات تعليمية دورية للمدارس والثانويات، وورشات تعليم، وحوار مع متخصصين في مختلف العلوم.. وعروض علمية للأطفال ومنشطون فكاهيون يقومون ببعض التجارب العلمية الهزلية، إلخ.
وقد أثار فيّ هذه الزيارة تساؤلات حول ضرورة أن تهتم الدولة في تونس بإنشاء مشروع ضخم كهذا يقوم بإنجاز محاوره طلبة العلوم والطب والهندسة المعمارية ومختلف تخصصات الهندسة الأخرى، وعلوم الكمبيوتر، إلخ..

هذه الفكرة دعتني للتفكير بشكل أوسع في ما يعرف بـ"السياحة الثقافية"، وهذا ما أقترحه في ما يلي..

1- مفهوم السياحة الثقافية

تعرّف السياحة بأنها تنقّل إلى مكان خارج مقر الإقامة المعتاد، لمدة تتجاوز 24 ساعة، ولا تتجاوز السنة، سواء لهدف ترفيهي أو مهني (زيارة معرض، مشاركة في مؤتمر، زيارة عمل، إلخ) أو لزيارة الأهل، أو الهروب من البرد بحثا عن الدفء، أو الرغبة في اكتشاف ثقافات جديدة وأنماط غذائية مختلفة، أو لأي هدف آخر.

ويتضمن الاقتصاد السياحي كل ما يتعلق بأنماط تنقل المسافرين، وطعامهم، وإقامتهم، والأنشطة التي ينخرطون فيها خلال سفرهم. وبهذا الكمّ الهائل من المنتجات والخدمات الملبّية لحاجات ملايين السياح يمكن أن ندرك لماذا تمثل السياحة حاليا صناعة من أكبر الصناعات في العالم.

أما بالنسبة إلى السياحة الثقافية، فلنا ندرك وجود تعريفات مختلفة، نتيجة لتعدد التعريفات لمصطلح "الثقافة". ومن بين المصطلحات المعتمدة:

- السياحة الثقافية والتراثية: وتعتمد على المشاركة في نشاط ثقافي أو تراثي، بما يشكل مبررا ودافعا قويا للتنقل من مدينة لأخرى ومن بلد لآخر. ومن هذه الأنشطة: فنون الركح (المسرح، الرقص، الموسيقى..)، والفنون البصرية والتقليدية، والمهرجانات، والمتاحف، والمراكز الثقافية، والمواقع التاريخية، إلخ.
- حركة الأشخاص نحو المعالم الثقافية القائمة بعيدا عن إقامتهم المعتادة، ليعيشوا تجربة جديدة ويكتسبوا معارف أخرى، في إطار تلبية حاجاتهم الثقافية، مثل السفر لزيارة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والدينية، إلخ.
- السياحة الجغرافية: التي تركز على الطابع الجغرافي لبعض الأماكن، سواء فيما يتعلق ببيئتها، أو مناخها، أو طبيعتها، أو ثقافتها، أو هندستها المعمارية، أو عاداتها، أو أهلها.

وتشير جميع هذه التعريفات إلى الأبعاد المختلفة لهذا القطاع.. فالسياحة الثقافية تضمّ مختلف التجارب التي يعيشها الزوار لاكتشاف ما يمثل طابعا متميزا لمكان مّا، سواء كان متعلقا بجغرافيته، أو تراثه، أو نمط الحياة فيه، أو فنونه، أو أهله، ولكن أيضا التعبيرات الفنية عن هذه الثقافة.

2- ما يمكن توفيره في إطار السياحة الثقافية

المنتجات والخدمات التي يمكن توفيرها في إطار السياحة الثقافية كثيرة ومتنوعة.. ومن بينها:

- المواقع الثقافية والتراثية: المعارض الفنية، قاعات العروض، المتاحف، المسارح، المزارع، الأماكن التاريخية، المراكز الثقافية، الآثار الدينية، المنارات، القلاع، المساجد التاريخية، القصور الأثرية، معارض الرسم والنحت..

- الطرق: الطرق والمسالك التاريخية، الطرق ذات الطبيعة الجميلة، مسالك الرحلات التاريخية..
- الخدمات ذات الطابع الثقافي والتراثي: الإقامة، متاجر التفصيل، بيع الهدايا التذكارية والآثار وأدوات الديكور التراثية، مطاعم، استراحات، أماكن ترفيه للأطفال..
- المناسبات: المهرجانات المحلية، الأسواق، مجسمات لأحداث ووقائع وشخصيات ومباني تاريخية، مهرجانات الموسيقى والأفلام والمسرح، تنشيط الشوارع (ترفيه، عزف فردي، رقصات شعبية)، رسوم الشوارع..
- الزيارات الثقافية والتراثية: زيارات القرى الأثرية، ومواطن البربر والسكان القدامى، زيارة المصانع، زيارة المزارع والضيعات الفلاحية، زيارة الأماكن العسكرية ومواطن المعارك التاريخية، زيارة الآثار الجيولوجية..
- الأحياء الثقافية والتراثية: الأحياء والمنازل التاريخية، الخصائص المعمارية (المباني، الجسور التاريخية، المساجد)، الطرق التاريخية والحدائق العمومية..
- المناظر الطبيعية الثقافية أو التراثية: الحدائق، الممرات والمسالك، المعالم..
- المنتجات والخدمات المحلية: الصناعات التقليدية، والمهن المميزة، الأغذية والغلال، معاصر الزيتون، مصانع تعليب التمور، مصانع تقطير العطور، الهدايا التذكارية المصنوعة يدويا..

3- فوائد السياحة الثقافية:

يمكن تلخيصها في ثلاثة أبعاد أساسية: اقتصادية واجتماعية، وبيئية:
- الفوائد الاقتصادية:
o تنويع الاقتصاد المحلي من خلال إنشاء مواطن الشغل والمؤسسات ومعالم الجذب السياحي
o استقطاب الأموال وتوفير مداخيل جبائية
o دعم المؤسسات الصغيرة وتوفير إمكانيات التوسع
o التشجيع على حماية الموارد المحلية
o تدعيم الروابط بين المناطق وداخل المنطقة الواحدة
o التحفيز على إنشاء المرافق العمومية وتعهدها وصيانتها المستمرة
- الفوائد الاجتماعية:
o تحسين الصورة العامة لأهل المنطقة، وتنمية شعورها بالاعتزاز والفخر والرضا
o التشجيع على تجميل المناطق
o توفير أطر ومناسبات لخلق روابط وشراكات إيجابية بين الأطراف المحلية
o توفير تجارب تربط الزوار بتاريخ المنطقة، مما يساعد أيضا في ربط أهالي المنطقة في الارتباط أكثر بتاريخهم وتراثهم
o حماية العادات والتقاليد والثقافة المحلية
o توفير فرص التعلم، والبحث العلمي للطلبة
o تحقيق استثمار محلي في الموارد المحلية والخدمات السياحية الداعمة لها.
- الفوائد البيئية:
o المساهمة في خلق ثقافة حماية للموارد المحلية
o تشجيع الأهالي والزوار على الوعي بتأثير السلوكيات في حماية البيئة أو الإضرار بها
o تنمية الشعور بأهمية المناطق والمحليات

4- السياحة الثقافية والتراثية.. هويتنا الكامنة في الزمان والمكان

تمثل السياحة الثقافية أحد أهم وسائل التواصل العالمي. ولذلك يجب أن تصبح أداة للتنمية المستدامة، مع الخضوع في نفس الوقت للقيم الأساسية مثل التعليم، واحترام تنوعنا، وتميز مشاريعنا، وحماية تراثنا.

فالتنمية المستدامة تمثل عاملا من عوامل النمو الاقتصادي. ورغم توفيرها للثروة ومواطن الشغل، إلا أن ذلك يتم أحيانا على حساب القيم التي نحملها. ومن أجل الحفاظ على الطابع الإنساني للسياحة الثقافية، يجب أن تتوفر للزوار إمكانية أن يحملوا معهم في حقائبهم بعض المشاعر والذكريات، وبعض المعارف والخبرات الجديدة، وأيضا بعض الصداقات.. لهذا فمن الضروري حماية تراثنا المادي وغير المادي، من خلال الالتزام بأخلاقيات عامة تركز على التعبير عن روح بلادنا وجمالها..

5- البحث عما يلائم واقعنا

تحتاج المجتمعات الراغبة في تنويع اقتصادها من خلال السياحة، لأن تأخذ بعين الاعتبار تطور العقلية الاستهلاكية للمسافرين.. ففي واقعنا المعاصر، أصبح كثير من محبي الأسفار والرحلات يبحثون عن مواصفات خاصة في اختيار البلدان التي يزورونها، مثل:
- الأماكن الآمنة
- التجارب الفريدة وذات القيمة
- القدرة على "المشاركة" بدل الاكتفاء بـ"المشاهدة"
- إمكانية التعرف والتواصل مع الأهالي المحليين
- الجودة بأسعار معقولة
- الرفاهية مع إمكانية القيام بأنشطة ومغامرات معقولة
- منتجات فريدة من نوعها، وتجارب مكيّفة حسب الأشخاص
- إمكانية تنظيم جولات "عفوية"، واقتراح مسارات سياحية مختلفة
- إمكانية تخطيط السفر عن طريق الإنترنت
- إمكانية دعم الممارسات السليمة فيما يتعلق بالبيئة والمسئولية الاجتماعية.

6- مشاريع عملية لتونس

تونس تحتاج لتأسيس عدة متاحف وطنية موزعة جغرافيا على عدة ولايات كي تساهم في تنشيط السياحة الثقافية وخلق فرص العمل، والعائدات المادية. مع الإشارة إلى أن مواد هذه المتاحف والمعارض لا تستوجب تمويلا ضخما، بل يمكن إنجازها في إطار ابتكارات وورشات طلابية وفنية وأعمال أهل التخصصات العلمية.. وفيما يلي بعض مشاريع السياحة الثقافية التي قد يفيد التفكير في إنجازها بتونس:

1. المتحف الوطني للثورة:
o مفهوم الثورة
o أحدث الثورة بسيدي بوزيد
o محمد البوعزيزي
o أحداث الثورة في مختلف المدن
o رموز الثورة
o مفهوم الحرية والكرامة
o أسباب الثورة
o اختلال التنمية الجهوية
o الفقر والحرمان
o أرقام وإحصائيات
o وعي الثورة المدنية في مقابل العنف الثوري
o ثورات الربيع العربي، وتأثير الثورة التونسية في الوضع العربي الراهن
o مقارنات مع أهم الثورات في العالم
o ...

2. المتحف الوطني لحقوق الإنسان:
o مفهوم حقوق الإنسان
o الميثاق العالمي لحقوق الإنسان
o المواثيق الدولية والتونسية
o تاريخ الرق في تونس، ووثيقة القضاء على الرق 
o وضع المرأة التونسية
o حقوق الطفل
o التمييز العنصري
o التمييز الجهوي
o ...

3. متحف الذاكرة الوطنية:
o تاريخ الحركة الوطنية
o وثائق الاستعمار
o شخصيات وطنية
o المعارك الكبرى للمقاومة
o التاريخ النقابي
o شعر وأدب المقاومة
o الفنون في فترة الاستعمار
o تاريخ الدولة العثمانية بتونس
o تطور المعمار التونسي
o كبرى العائلات التونسية وأصولها بكل مدينة
o تاريخ الفرق الرياضية بتونس
o الطوابع البريدية
o النقود والعملات التونسية
o تاريخ البريد التونسي
o تطور وسائل النقل التونسية
o تاريخ الخطوط الجوية التونسية، وشركة السكك الحديدية
o تاريخ الدول والممالك والحضارات بتونس
o رسم الحدود الجغرافية التونسية
o تاريخ انضمام تونس للأمم المتحدة والمعاهدات الدولية
o تاريخ البرلمان التونسي
o دستور 1956
o ...

4. متحف الطبيعة..

5. متحف/مركز العلوم:
o الطاقة والكهرباء
o الميكانيكا
o الذرّة
o الزراعة والأغذية
o الطب
o علوم الفضاء
o الجيولوجيا والمعادن
o البيولوجيا
o علم الأحياء
o بداية الكون ونظرية الانفجار الأول ونظرية التصميم الذكي
o الكواكب
o الاختراعات الكبرى
o نظرية الألوان
o خلق الإنسان
o تفسير أهم الأمراض
o تشريح الأعضاء
o تنمية عضلات الإنسان، ونمو الأعضاء
o نظرية داروين، والتشابه بين الكائنات الحية
o تفسير الظواهر العلمية والطبيعية مثل الريح، والمطر، والجاذبية، والحرارة، وتخلّق الجنين في بطن الأم، واختلاف ألوان البشرة لدى الإنسان، إلخ..
o ...

6. يمكن أيضا إنجاز متحف على نمط متحف اسطنبول (Miniaturk) الذي يستعرض مجسمات صغيرة لجميع الآثار التركية من مختلف المدن..

7. متحف الحضارة العربية والإسلامية: على نمط متحف مينياتورك Miniaturk بإسطنبول.. ومن أجنحته الممكنة:
o تأريخ انتشار الإسلام
o المخطوطات الإسلامية
o الخط العربي
o تاريخ العلوم عند العرب
o المعمار الإسلامي
o فن الزخرفة
o أهم مساجد العالم
o مجسم للحرم المكي
o مجسم للحرم المدني
o علوم القرآن والحديث
o التفاسير ومناهجه
o المذاهب والفرق ومظاهر التنوع الإسلامي
o  تاريخ الممالك والدول
o رمضان في ثقافات الشعوب المسلمة
o الحج
o الوقف الإسلامي
o ...

7- بعض الروابط المفيدة:

1. متحف الثورة الفرنسية بمدينة فيزيل: http://www.domaine-vizille.fr
2. متحف الثورة بكوبا: http://www.cnpc.cult.cu/Patrim_Mueble_Museos/Museos/Mus-Revolucion/pcpal.htm
3. مركز العلوم بتورنتو (فرنسي وانجليزي): http://www.ontariosciencecentre.ca
4. متحف مينياتورك بإسطنبول: http://miniaturk.com.tr

محمد بن جماعة

2014/02/07

مراحل تشكّل الهوية الدينية

مقالي المنشور بتاريخ 7/2/2014 في موقع "نواة"
الرابط: http://wp.me/p16NIR-71a


كيف تتشكل الهوية الدينية للفرد في المجتمع المسلم؟ وما هي العوامل التي تدفع البعض نحو التدين أو الإلحاد؟ أو تدفعهم نحو "التدين المسالم" أو "التدين العنيف"؟ ولماذا ينتقل البعض من تدين الفطرة إلى تدين التكفير والعنف، أو إلى الإلحاد؟

1- تعريف الدين والهوية:

يعرّف الدين، من حيث هو حقيقة خارجة (Objective Fact)، بأنه: "جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها" (1).

وتتكوّن الهوية الدينية لدى الفرد كحالة نفسية (Subjective Status) بمعنى التدين، حين يعتقد بوجود ذات –أو ذوات- غيبية/علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرّف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقادًا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد. وبعبارة موجزة، يمكن القول إن الهوية الدينية تتكوّن من خلال الإيمان بذات إلهية، جديرة بالطاعة والعبادة.

والنصوص الدينية المؤسسة (كالقرآن والسنة بالنسبة للمسلمين، والإنجيل بالنسبة للمسيحيين) توفر جملة من العلامات والسمات الفارقة للهوية الدينية (Identity Markers).. غير أن الأفراد والجماعات قد يختلفون في تمثل هذه الهوية الدينية بمقدار فهمهم وإدراكهم وممارستهم لهذه العلامات، وبمقدار استحضار هذه العلامات، بعضها أو كلها، في مختلف الحالات في بيئتهم الاجتماعية.

وتماما مثل "تصور الذات" الذي تحدثنا عنه سابقا، تعتبر الهوية الدينية غير مستقرة، بحيث تتغير وتتطور عبر مراحل مختلفة من النمو المعرفي المتأثرة بعاملين: عامل النضج الذاتي، وعامل البيئة الاجتماعية.

ولو أخذنا الهوية الإسلامية كمثال، فسنلاحظ أن مراحل تشكّل الهوية الإسلامية تختلف من فرد لآخر، ومن جماعة لأخرى. 

وفي ما يلي نموذج لكيفية تشكل الهوية الإسلامية والشعور بالانتماء عبر عدة مراحل:


2- مراحل تشكّل الهوية الدينية:

* المرحلة الأولى: الإسلام كـ"هوية فطرية":

فأن يكون الإنسان "مسلما"، فهذا يعني انتماء موروثا، ينظر إليه كأمر مكتسب منذ الولادة (2). ففي هذه الحالة يصبح الإنسان مسلما لأنه ولد في أسرة مسلمة. ومفهوم الوراثة يشير إلى أمرين: أولهما أن الأسرة تقوم بتمرير إرثها الديني والاعتقادي للطفل، وثانيهما أن الطفل لديه قابلية لاكتساب هذا الموروث. وهذا ما يعبر عنه الحديث النبوي: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" (رواه البخاري)، الذي يشير إلى أن أي طفل إنما يولد على (الحالة الطبيعية الأولية)، أو ما يسميها مالك الشبل "درجة الامتياز الأوّلي" (3)، أو "الإيمان الفطري القَبْلي" الذي يجعل من كل إنسان مؤمنا بالله وبوحدانيته نتيجة عهدٍ سابقٍ عن الولادة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف، 7).

فكل طفل يحمل في نفسه، منذ الولادة، هذا الإيمان بالله، كأنه معطى بيولوجي وراثي، إيمانا "إسلاميا" بصفة محددة، بما أن الحديث ميزه عن إيمان اليهودية وإيمان النصرانية.

غير أن هذا الانتماء الفطري للإسلام منذ الولادة، لا يكفي بما أن هذه "الحالة الطبيعية الأولية" سرعان ما تترك مكانها للتربية الأسرية. ولذلك يمكن القول إن "إسلام" الفرد لحظة ولادته يمثل حالة فطرية "مؤقتة"، وأن انتماءه الديني لا يتجسد إلا في الإطار الأسري الذي يعطي للمولود "الهوية الدينية" نفسها التي يحملها الأبوان. ويدرك الطفل تدريحيا هذا الانتماء المختار له من قبل والديه، ويتقبّله من غير أن يعي بالضرورة تفاصيل هذا الانتماء ومدلولاته. كما أنه قد لا يشعر بوجود أديان ومعتقدات أخرى، خصوصا إذا ولد وعاش طفولته في بلد مسلم لا يوجد فيه تعدد ديني.

وهكذا، لا تتجسد الهوية الإسلامية ومشاعر الانتماء للإسلام عند الطفل من خلال معرفته وإدراكه للحق بمفهومه العقلي أو الفلسفي، وإنما تتجسد هويته الإسلامية فقط من خلال تفاعله المستمر مع هوية والديه الدينية، وما يلاحظه في حياته اليومية، بحيث تتولد لديه قناعة بأن "الإسلام" أو "الحق" يتمثل ببساطة في أفعال وأقوال الوالدين..

وهذا الانتماء لا يمثل بالضرورة انتماء صريحا للإسلام من قبل الطفل، لأنه في هذه السن الصغيرة لا يمتلك بعد شعورا واعيا واختياريا بالانتماء إلى جماعة من الأفراد الذين يحملون معتقدات وممارسات تعبدية مشتركة، وإنما يكتفي بانتمائه الأسري، وما قد يوفره له من فرص التعرف على بعض الأسر الأخرى في دائرة الأقارب والأصدقاء.

وفي هذه المرحلة من العمر، لا يستطيع الطفل تمييز الفوارق بين المعتقدات، ولا يقدّر أيضا قيمة التمييز بينها، أو قيمة كل معتقد من هذه العقائد. ولذلك فلا يشكّل اللقاء مع الأديان أو المعتقدات الأخرى أي نوع من الصدام أو المواجهة بالنسبة للطفل في هذه المرحلة العمرية.

فالطفل، إذن، يقبل "الإسلام" في مرحلة أولى كما هو، "إسلاما فطريا"، بدون بحث في التفاصيل، لأنه يمثل جزءا من حياته منذ الولادة. وتتولى الأسرة رعاية الطفل في مسار تشكيل هذه الهوية.

* المرحلة الثانية: اختيار "الإسلام":

كيف  ينمو لدى الفرد الشعور بالانتماء إلى جماعة مّا بحيث يرى أنها تساهم في تكريس هويته كمسلم؟

تتشكّل الهوية الدينية من خلال العلاقة مع "الآخر". فمواجهة حقيقة وجود "آخر متديّن" تكشف للمؤمن الحاجة لتعريفٍ لا يكتفي بذكر الصفات الذاتية التي تجعل منه "فردا متدينا"، بل يتجاوز ذلك لتحديد ما يجمعه بالآخر، أو يميزه عنه في الاعتقاد والممارسة الدينية. فيكتشف الفرد من خلال هذه العملية وجود أشخاص من حوله يحملون وعيا بالانتماء لنفس المميزات التي يحملها. وهكذا، ينشئ الانتماء المشترك رابطةً تجمع "الفرد" بوالديه، وبأسرته وأقاربه، ثم ببقية المسلمين من حوله. ومن خلال هذه الرابطة الشعورية، ينتقل الفرد من طور "الإسلام الفطري" إلى طور "الإسلام الواعي" الذي يجعله مدركا لخصائص انتمائه المتمثلة في: الشعور الديني، والإيمان بالمعتقدات، والشعائر التعبدية، والقيم، والأخلاق، والسلوكيات، والممارسات الدينية. ويضاف إلى ذلك جملة الاختيارات والتصورات التي يعتمدها الفرد بناءً على تاريخه الذاتي والأسري والنفسي والثقافي. وترى الباحثة دانيال هارفيو-ليجي (Danièle Hervieu-Léger) أن الهويات الدينية إنما هي: "محصّلة مسارات متعددة ومتراكمة على امتداد الزمن. والفرد هو الذي يعطي للتجارب المتتالية والمتباينة التي يعيشها القيمةَ التي تصيّرها مسارا ذا معنى" (4).

وهنا يكمن الفرق الذي يعبّر عنه الفرد المؤمن، بين "كونه مسلما"، و"قوله عن وعي وإدراك بأنه مسلم"، حيث ينتقل الفرد من مرحلة "معرفة أنّه مسلم"، إل مرحلة "القبول والانخراط في دائرة المسلمين" والمطالبة بأن يعامل على هذا الأساس.

ثم في مرحلة تالية، يبدأ الفرد في صياغة هويته الدينية الذاتية، من خلال التمييز بين "النموذج الصالح" للتديّن و"النموذج السيء"، وذلك على أساس ملاحظة درجة الالتزام وطرح التساؤلات. وهنا تبدأ التأسيس الواعي للهوية الدينية، بالاعتماد على نوعية الأسئلة التي تبادر الذهن ودرجة جودتها، ونوعية الأجوبة التي يتلقاها الفرد إما من والديه أو من محيطه الاجتماعي القريب ودرجة جودتها أيضا. وهذه الأجوبة (ويضاف إليها مراقبة النموذج الصالح ومحاولة الاقتداء به) هي التي تصوغ، في محصّلة الأمر، هويته الدينية وتعطي لها المعنى الذي سيستقر في وعيه وإدراكه.

وحتى ينتقل الفرد من كونه مسلما بذاته إلى أن يصبح عضوا في "جماعة المسلمين"، يلجأ الفرد إلى تكييف تصوره الذاتي لهويته الدينية حتى تصبح مقبولة من الآخرين وتعطي الانطباع الإيجابي بأنه مسلم ممارسةً وخطابًا. وقد تظهر في هذه المرحلة بعض الفوارق في الخطاب والممارسة بين الأفراد المسلمين، وعادة ما تبرَّر بكونها مكتسبة من تعليم ديني مختلف من أسرة لأخرى. 

إلا أن هذه الفوارق تظل ثانوية، لأن الفرد يكتشف في هذه المرحلة ثراءَ الرصيد النفسي الذي يوفره له هذا الانتماء الجديد إلى عائلة أكبر وأوسع تسمى "الأمة الإسلامية" أو "الجماعة المسلمة"، وتضمن للعضو فيها المحبة والأخوة والتكافل والنصرة والحماية، أيا كانت فوارق النسب والجاه واللون والعرق. وكلما كان شعور الفرد بهذه الرابطة القلبية وهذا التضامن من بقية أفراد الجماعة المسلمة أقوى، كلما تجذر الشعور بالهوية الدينية والانتماء الديني.


* المرحلة الثالثة: الشعور بالانتماء للإسلام:

يحتاج الفرد لمعرفة كيفية التعبير عن انتمائه الديني بشكل اختياري، حتى يُقبَل به ويُتعامل معه على أساس أنه مسلم حقّا، وليس على أساس أنه مسلم بالاسم فقط، أو بحكم الانتماء الأسري.

ولا يمكن الحديث عن "الاختيار" إلا بوجود خيارات متعددة. وتأكيد هذا الاختيار هو الذي يميز المسلم الذي يستشعر الإيمان (بما أنه استوعب صورته وعرف كيف يعبّر عنه في أقواله وأفعاله)، عن المسلم بحكم الوراثة والأسرة. وفي سبيل ذلك، يحتاج المسلم لثلاثة أمور: أن يكتسب القدرة على التعبير عن تجربته الإيمانية، وأن يكون قادرا على الدفاع عنها قدر المستطاع، وأن يشهد على أنه يعيش هذه التجربة الإيمانية بشعور صادق ومخلص.

ويعتبر الانتساب المعبّر عنه بشكل اختياري وسيلةً للتأكيد للآخرين على أن المؤمن يدرك متطلبات الحياة الاجتماعية. فالهوية الإسلامية والعضوية في "الأمة"، بالنسبة للمسلمين، لا تورث، وإنما يجب أن تتوافق مع مشاعر الإيمان (5)، وتقوم على أساس القبول والرضى والالتزام: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء، 65).

ويتغذى الشعور بالانتماء إلى الإسلام لدى الفرد من خلال 3 دوائر مترابطة:

- دائرة الرابطة الشعورية مع الله تعالى (من خلال تلاوة القرآن وتدبره، وأداء الفروض والنوافل والطاعات، واستشعار معية الله ورقابته) ورسوله صلى الله عليه وسلم (من خلال دراسة السنّة والسيرة ومواطن القدوة)

- دائرة التعلق بالقيم والأخلاق والمعتقدات الإسلامية والنماذج الواقعية المجسّدة لها (من خلال دراسة التاريخ والسير ومواطن الاقتداء في جيل الصحابة والأجيال التالية له).

- دائرة الرابطة الشعورية والعضوية بمجموعة من المسلمين (من خلال المشاركة في الأنشطة، وارتياد المساجد، والمشاركة في الحوارات الدينية، والتطوع في مشاريع تخدم أهدافا إسلامية أو تعبر عن قيم  إسلامية، وحضور المحاضرات والدروس الدينية، إلخ.)


* المرحلة الرابعة: العضوية والانتساب للأمة:

كيف يصل المسلم إلى ربط هويته وانتمائه، ليس فقط بجماعته المحلية التي يعيش داخل شبكة أفرادها، وإنما بجماعة ضخمة بحجم العالم، لا تجمعها وحدة اللغة، ولا وحدة الثقافة والعادات والتقاليد، ولا وحدة السلطة السياسية؟ ومن يشاهد مواسم الحج، يدرك أن التنوع الثقافي للمسلمين أمر واقع.

يرى باباس (Babès) أن "الأمة الإسلامية" ليس وحدة قائمة ذات حدود واضحة، ولا تكتلا اجتماعيا، وإنما هي "أمة عقيدة" (6). وهذا يعني أن نبحث عن عوامل تشكل "الأمة الإسلامية" في التصور الاعتقادي للإسلام وفي التطبيقات المرتبطة به. 

يجسد الانتساب للأمة الإسلامية المساواةَ الأخوية التي أعلنها القرآن الكريم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (سورة الحجرات، الآية 10)، وفصّلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ.. كُلُّ المُسْلِمْ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ.. التَّقْوَى هَهُنَا.. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ" (7).

فالجميع متساوون، وليس أحد بأفضل من أخيه إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (سورة الحجرات، الآية 14).

ومن الملاحظ هنا أن الخطاب القرآني والنبوي ألح في صياغته للرابطة الإيمانية على استعمال نفس مصطلح "الأخوة"، المستعمل عادةً للتعبير عن قرابة الدم والعشيرة (وهي أقوى الروابط البشرية)، وأفرغه من معاني العصبية الظالمة، ليجعله خالصا لمعاني الخير، كما جاء في الحديث الصحيح: "انْصُرْ أَخَاكَ  ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ" (8).


الهوامش:

1- د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم، ط2، ص 52.
2- من المفيد الانتباه إلى أن هذا العامل الوراثي الأسري يصبح غير ذي قيمة في سياق الأشخاص الذين يتحولون إلى الإسلام، بعد أن كانوا غير مسلمين
3- Malek Chebel, Dictionnaire des symboles musulmans (entrée: 'La circoncision en Islam'), Editions Albin Michel, 2003.
4- Danièle Hervieu-Léger. La transmission des identités religieuses. In Sciences Humaines, hors-série, N° 36. pp. 56-59. 2002.
5- انظر: فتحي يكن، ماذا يعني انتمائي للإسلام؟
6- L. Babès. Comment parler de la communauté musulmane de France ?. In Islam de France, N° 7, 1999. pp. 5-23.
7- رواه الترمذي، سنن الترمذي (نقلا عن موسوعة الدرر السنية).
8- رواه البخاري، صحيح البخاري الترمذي (نقلا عن موسوعة الدرر السنية).


محمد بن جماعة

2014/01/23

في المسافة بين الشخصنة والتعاطي مع الأفكار.. المستقيلون "في داخل" النهضة..

مقالي المنشور في موقع الصدى بتاريخ: 23/01/2014
http://al-sada.net/?p=29380


أحد الأصدقاء حدثني منذ أيام أن مناسبة جمعته ببعض أقاربه من النهضة، فلاحظ له على هامش اللقاء أنه افتقده منذ فترة في الفايسبوك، بحيث لم يعد يراه يعلق أو يضع "جام" على ما يكتبه، بعد أن كان مواظبا على القراءة له والاهتمام بكتاباته وتعليقاته و"البارتاج".. فقال له: الأمر ناتج عن صدور قرار تنظيمي بتجنّب وتجاهل الصفحات الشخصية لمنتقدي النهضة تعليقا ومشاركة ونشرا، "حتى لا تشتهر"..

لا يهمني كثيرا إن كان هذا "القرار التنظيمي" محليا أو جهويا أو مركزيا، أو حتى اجتهادا شخصيا لأحدهم دون علم القيادة.. ولا يهمني عدد الأشخاص المتجاوبين مع هذا الأسلوب في التعاطي مع النقد الموجّه للنهضة من إسلاميين أو نهضاويين "خرجوا عن السرب" أو استقالوا.. ولا يهمني أخيرا عدد من يقوم بهذا الأمر..

ما يهمني فقط هو هذا النمط من التفكير، الذي يجعل صاحبه "إمّعة" كما ورد في الحديث النبوي، بمنطق: (أنا مع النهضة، إن أحسنت النهضة أحسنتُ معها، وإن أساءت أسأتُ معها).. والذي يجعل صاحبه يقاطع شخصا لمجرد نقده للنهضة، سواء كان النقد صوابا أو خطأ، وسواء نشر نقدا عن النهضة، أو نشر كلاما آخر لا علاقة له بالنهضة.. بحيث تكون لديه قابلية أن يحرم نفسه من كمّ الصواب والأفكار الجيدة لمجرّد أنّ صاحبها ناقد للنهضة وبالتالي يجب مقاطعته جملة وتفصيلا.

حين يستقل الفرد بفكره عن الجماعة ويتحرر من ضغوط الانصهار والذوبان في الجماعة، تصبح له قدرة أكثر على التجرد ورؤية الأمور بعينيه وعقله الذاتي وليس بعيون وعقول المحيطين به تحت عنوان حزبي.. ويصبح لديه قدرة أكبر على الصدق والعدل والاقتصاد في الرؤية، بحيث يفيد جماعته من الداخل في التنبه للأخطاء الداخلية والدفع من أجل إصلاحها.. وبالتالي يصبح أكثر قيمة وفائده داخل جماعته..

وعلى العكس من ذلك، حين يستجيب أو يفكر بمثل هذا النمط من التفكير، فهو إنما يسقط في التيعية والذوبان في الخطأ، ويصبح بالفعل هو المستقيل حتى لو بقي داخل النهضة، وصاح مذكّرا نفسه والآخرين بانتمائه ومفتخرا به.. مثله كمثل الأعراب المذكورين في القرآن، الذين يدّعون الانتماء ولا يمارسون ولا يعملون ولا يبنون ولا يُصلِحون ولا يصوّبون..

فالاستقالة السلبية في الحقيقة ليست تلك المتمثلة في الخروج عن "الإطار والهيكل" تمردا ورفضا للذوبان في الجماعة، ورفضا لقمع الحق في التعبير عن الرأي داخلها حتى لو كان مخالفا.. فهذا النوع من الاستقالة هو جزء من التدافع نحو تكريس الحرية وحق الاختلاف.. ومن حق الفرد الذي يجد نفسه محاصرا ومقموعا ومهانا بأشكال مختلفة (القمع، التجاهل، المحاصرة، التجميد...) أن يثور انتصارا لحقه المبدئي في التعبير والمشاركة داخل الجماعة.. وبالتالي فهي تصبح فعلا إيجابيا وليس سلبيا..

الاستقالة السلبية، الحقيقية والأخطر، إنما هي تلك التي يمثلها الأعضاء الباقون داخل الحزب وقبلوا استقالة عقولهم ومارسوا على أنفسهم رياضة التأقلم والصمت عما يرون من أخطاء، وخدّروا أنفسهم بمسكّنات من نوع "وحدة الجماعة" و"عدم نشر الغسيل" و"الستر وعدم الفضيحة"، أو بمخوّفات من نوع "المؤامرة الخارجية" و"تكالب الأعداء" و"الصبر على الإخوان"، إلخ..

هؤلاء هم المستقيلون السلبيون.. لأنهم يكرّسون استمرار الأخطاء ويحرمون أنفسهم من الاستفادة ممن ينبّههم لأخطائهم الجماعية، ويحرمون أنفسهم من لذة وفرصة الحصول على ناقد مخلص مهتم (رحم الله من أهدى إلي عيوبي).. ويقبلون لأنفسهم الاستسلام أمام الأخطاء..

ينغفل هؤلاء عن كونهم ينتمون لحزب أو حركة إسلامية تعرّف نفسها بكونها "إصلاحية".. وهم باستقالتهم عن الإصلاح الداخلي إنما يناقضون جوهر الإصلاح، الذي يجعل الذات والجماعة مستعدة وقابلة، بل وباحثة عن التطوير والإصلاح والتنبه للأخطاء، قبل أن تتوجه بفكرة الإصلاح لمجتمعها الذي تعيش فيه.. وفاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا يملك قابلية للانفتاح، واستعدادا للنقد ولتغيير أساليب العمل والهيكلة وأنماط التفكير السلبية، لا يمكن له أن يقدم مشروعا اجتماعيا إصلاحيا.. لأنه سيكون كمن يقولون ما يفعلون..

وحتى أختصر الكلام على من سينظر لهذه الفكرة من زاوية المشاكسة أو التهوين، كونَ بعض الناقدين هدفهم انتقاص النهضة، أو كون تجاهل بعض الناقدين في صفحاتهم إنما يأتي من باب التهدئة وعدم تبادل الاستفزازات.. أقول: ليس هكذا تبنون الجسور مع المخالفين، بل أنتم هكذا تقيمون الحواجز.. وحتى لو افترضنا وجود بعض التجاوزات في النقد الموجه للنهضة، أو أن البعض يخونهم التعبير أو الأسلوب أو نضج الفكرة الناقدة، أو تغيب عنهم بعض التفاصيل.. ألا يحقق مصلحة وطنية وحزبية واجتماعية وتربوية أن نقبل حتى النقد الجارح ونصبر عليه، بدل قمعه وتجاهله وإفراغه من محتواه؟ أليس من واجب من يبدي صبرا على الإنصات واستعدادا لتوافقات وتنازلات في "حوار وطني" أَوْلى بممارسة هذا النهج مع الناقدين والنشطاء والأعضاء؟

محمد بن جماعة