مقالي المنشور في موقع الصدى بتاريخ: 23/01/2014
http://al-sada.net/?p=29380
أحد الأصدقاء حدثني منذ أيام أن مناسبة جمعته ببعض أقاربه من النهضة، فلاحظ له على هامش اللقاء أنه افتقده منذ فترة في الفايسبوك، بحيث لم يعد يراه يعلق أو يضع "جام" على ما يكتبه، بعد أن كان مواظبا على القراءة له والاهتمام بكتاباته وتعليقاته و"البارتاج".. فقال له: الأمر ناتج عن صدور قرار تنظيمي بتجنّب وتجاهل الصفحات الشخصية لمنتقدي النهضة تعليقا ومشاركة ونشرا، "حتى لا تشتهر"..
لا يهمني كثيرا إن كان هذا "القرار التنظيمي" محليا أو جهويا أو مركزيا، أو حتى اجتهادا شخصيا لأحدهم دون علم القيادة.. ولا يهمني عدد الأشخاص المتجاوبين مع هذا الأسلوب في التعاطي مع النقد الموجّه للنهضة من إسلاميين أو نهضاويين "خرجوا عن السرب" أو استقالوا.. ولا يهمني أخيرا عدد من يقوم بهذا الأمر..
ما يهمني فقط هو هذا النمط من التفكير، الذي يجعل صاحبه "إمّعة" كما ورد في الحديث النبوي، بمنطق: (أنا مع النهضة، إن أحسنت النهضة أحسنتُ معها، وإن أساءت أسأتُ معها).. والذي يجعل صاحبه يقاطع شخصا لمجرد نقده للنهضة، سواء كان النقد صوابا أو خطأ، وسواء نشر نقدا عن النهضة، أو نشر كلاما آخر لا علاقة له بالنهضة.. بحيث تكون لديه قابلية أن يحرم نفسه من كمّ الصواب والأفكار الجيدة لمجرّد أنّ صاحبها ناقد للنهضة وبالتالي يجب مقاطعته جملة وتفصيلا.
حين يستقل الفرد بفكره عن الجماعة ويتحرر من ضغوط الانصهار والذوبان في الجماعة، تصبح له قدرة أكثر على التجرد ورؤية الأمور بعينيه وعقله الذاتي وليس بعيون وعقول المحيطين به تحت عنوان حزبي.. ويصبح لديه قدرة أكبر على الصدق والعدل والاقتصاد في الرؤية، بحيث يفيد جماعته من الداخل في التنبه للأخطاء الداخلية والدفع من أجل إصلاحها.. وبالتالي يصبح أكثر قيمة وفائده داخل جماعته..
وعلى العكس من ذلك، حين يستجيب أو يفكر بمثل هذا النمط من التفكير، فهو إنما يسقط في التيعية والذوبان في الخطأ، ويصبح بالفعل هو المستقيل حتى لو بقي داخل النهضة، وصاح مذكّرا نفسه والآخرين بانتمائه ومفتخرا به.. مثله كمثل الأعراب المذكورين في القرآن، الذين يدّعون الانتماء ولا يمارسون ولا يعملون ولا يبنون ولا يُصلِحون ولا يصوّبون..
فالاستقالة السلبية في الحقيقة ليست تلك المتمثلة في الخروج عن "الإطار والهيكل" تمردا ورفضا للذوبان في الجماعة، ورفضا لقمع الحق في التعبير عن الرأي داخلها حتى لو كان مخالفا.. فهذا النوع من الاستقالة هو جزء من التدافع نحو تكريس الحرية وحق الاختلاف.. ومن حق الفرد الذي يجد نفسه محاصرا ومقموعا ومهانا بأشكال مختلفة (القمع، التجاهل، المحاصرة، التجميد...) أن يثور انتصارا لحقه المبدئي في التعبير والمشاركة داخل الجماعة.. وبالتالي فهي تصبح فعلا إيجابيا وليس سلبيا..
الاستقالة السلبية، الحقيقية والأخطر، إنما هي تلك التي يمثلها الأعضاء الباقون داخل الحزب وقبلوا استقالة عقولهم ومارسوا على أنفسهم رياضة التأقلم والصمت عما يرون من أخطاء، وخدّروا أنفسهم بمسكّنات من نوع "وحدة الجماعة" و"عدم نشر الغسيل" و"الستر وعدم الفضيحة"، أو بمخوّفات من نوع "المؤامرة الخارجية" و"تكالب الأعداء" و"الصبر على الإخوان"، إلخ..
هؤلاء هم المستقيلون السلبيون.. لأنهم يكرّسون استمرار الأخطاء ويحرمون أنفسهم من الاستفادة ممن ينبّههم لأخطائهم الجماعية، ويحرمون أنفسهم من لذة وفرصة الحصول على ناقد مخلص مهتم (رحم الله من أهدى إلي عيوبي).. ويقبلون لأنفسهم الاستسلام أمام الأخطاء..
ينغفل هؤلاء عن كونهم ينتمون لحزب أو حركة إسلامية تعرّف نفسها بكونها "إصلاحية".. وهم باستقالتهم عن الإصلاح الداخلي إنما يناقضون جوهر الإصلاح، الذي يجعل الذات والجماعة مستعدة وقابلة، بل وباحثة عن التطوير والإصلاح والتنبه للأخطاء، قبل أن تتوجه بفكرة الإصلاح لمجتمعها الذي تعيش فيه.. وفاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا يملك قابلية للانفتاح، واستعدادا للنقد ولتغيير أساليب العمل والهيكلة وأنماط التفكير السلبية، لا يمكن له أن يقدم مشروعا اجتماعيا إصلاحيا.. لأنه سيكون كمن يقولون ما يفعلون..
وحتى أختصر الكلام على من سينظر لهذه الفكرة من زاوية المشاكسة أو التهوين، كونَ بعض الناقدين هدفهم انتقاص النهضة، أو كون تجاهل بعض الناقدين في صفحاتهم إنما يأتي من باب التهدئة وعدم تبادل الاستفزازات.. أقول: ليس هكذا تبنون الجسور مع المخالفين، بل أنتم هكذا تقيمون الحواجز.. وحتى لو افترضنا وجود بعض التجاوزات في النقد الموجه للنهضة، أو أن البعض يخونهم التعبير أو الأسلوب أو نضج الفكرة الناقدة، أو تغيب عنهم بعض التفاصيل.. ألا يحقق مصلحة وطنية وحزبية واجتماعية وتربوية أن نقبل حتى النقد الجارح ونصبر عليه، بدل قمعه وتجاهله وإفراغه من محتواه؟ أليس من واجب من يبدي صبرا على الإنصات واستعدادا لتوافقات وتنازلات في "حوار وطني" أَوْلى بممارسة هذا النهج مع الناقدين والنشطاء والأعضاء؟
محمد بن جماعة
Aucun commentaire:
Publier un commentaire