2016/06/28

معاناة المتحولين للإسلام داخل الجاليات المسلمة في الغرب

حدثني أحد الأصدقاء الكنديين وكان قسّيسا مسيحيا وأسلم منذ سنوات طويلة، أنه يدخل رمضان هذا العام بحالة نفسية مرهقة كثيرا، نتيجة خيبات الأمل المتكررة فيمن عرفهم من المسلمين، ونتيجة عدم عثوره على أي إطار روحي وديني يوفر له ما يحتاج إليه من الزاد العقلي والروحي والنفسي والاجتماعي.. مما جعل إيمانه يهتز ويضعف لأدنى درجاته..

وحدثني نفس الشخص قبل ذلك باسابيع عن حالات أخرى من الكنديين المتحولين للإسلام في مدينتنا، تخلوا عن الإسلام بعد صدمات كبيرة تعرضوا لها في ممارسة التدين في إطار الجالية..

قلت له: هذا ناتج لعدة اسباب من بينها:

1- ما يعرف في علم النفس بأزمة الأربعين (la crise de la quarantaine) والمتمثلة في تقييم الفرد لماضيه وحاضره ومستقبله، فتبدو له سنوات عمره الماضية وكأنها كابوس ثقيل، ويحد نفسه غير راض عما تحقق فيها، ويشعر أنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلامه على كل المستويات وأنه كان يجري وراء سراب.. حتى المبادئ والقيم التي أسلم وناضل من أجلها تبدو له شيئاً باهتاً، فلم يعد يرى لها القيمة نفسها، ولم يعد متحمساً لشيء ولا مهتماً بأي شيء ذي قيمة في المستقبل.. ويجد نفسه منطفئ الحماس ويكتشف أن الناس لا يستحقون التضحية من أجلهم، وأن المبادئ التي عاش لها لم يعد لها قيمة في هذه الحياة، وأن رفاق الطريق قد تغيروا وأصبحوا يبحثون عن مصالحهم ومكاسبهم بأي شكل وتخلوا عن كل مبادئهم وشعاراتهم التي رفعوها إبان فترة شبابهم، ولم يعد يخفف عنه آلام هذه المشاعر غير الوقوف بخشوع في الصلاة وتلاوة القرآن..

2- إصرار المسلمين المهاجرين والمستقرين بكندا على التمسك بموروثاتهم الثقافية من بلاد العرب والهند وإفريقيا وغيرها، واختلاط التدين بالعادات الثقافية والاجتماعية، مما جعل الكنديين المتحولين للإسلام يعجزون عن التمييز بين التدين وبين العادات الثقافية التي لا يستطيعون التأقلم معها.. باعتبار أن من حقهم هم أيضا التمسك بعاداتهم الثقافية الكندية والحياة بنمط عيش إسلامي متكيف مع ثقافتهم المحلية.

3- فشل المؤسسات والجمعيات الإسلامية عن التأسيس لخطاب إسلامي سليم تنسجم فيه القيم والسلوكيات، ويبتعد عن الأسلوب الوعظي التلقيني البارد، ويتلاءم مع واقع التنوع الإسلامي الذي تتكون منه الجالية المسلمة، ويحفز الأفراد والجماعات على الاندماج والفعل الاجتماعي المتميز..

كل ما يراه هؤلاء المتحولون في واقعنا هو: الاختلاف، والمشاكل، والصراعات المذهبية والفقهية، والحروب، والتطرف والتشدد، الخطب الجمعية الباهتة الباردة، والنشاط الاجتماعي الفوضوي، إلخ..

وإذا كان المسلمون يعانون من وضعهم كأقلية في المجتمع الكندي.. فهؤلاء المتحولون يجدون أنفسهم في وضع الأقلية داخل الجالية المسلمة.. فتصبح أزمة الهوية وأمة الانتماء لديهم مضاعفة: فلا هم مرتاحون لانتمائهم الكندي، ولا هم مرتاحون لانتمائهم الإسلامي..
فتنة أجد نفسي أمامها حائرا ضعيفا لا أملك ما يمكن أن أساعد به..

المسلمون و"رؤية العالم": نحو "علم فرق" معاصر

محمد بن جماعة


رؤية العالَم، أو "الرؤية الكونية" يُقصَد بها: النموذج التفسيري لفهم طبيعة المشكلات القائمة في الحياة، في مستوياته الثلاثة :
- مستوى التصور الذهني للعوالم الطبيعية والاجتماعية والنفسية،
- ومستوى الموقف من العالَم أو الحالة النفسية التي تستدعي إقامةَ علاقةٍ بهذه العوالم، علاقةِ تمكينٍ وتسخير، وسلامٍ وانسجام.
- ومستوى التخطيط لتغيير العالَم؛ ووضع مجموعة الأهداف التي يسعى الإنسان من خلال تحقيقِها إلى جعلِ العالَم أكثرَ انسجاما وتوازنا، بما يجعله أكثرَ تمكّناً من توظيف أشياءِ العالَم وأَحداثِه وعلاقاته وتسخيرِها لبناء حياةٍ أفضلَ للإنسان في هذا العالم.

وتحاول "رؤية العالم" الإجابة على عدد من الأسئلة في كل مستوى من هذه المستويات، من قبيل:
- كيف يمكن لمختلف الرؤى أن تقود الناس إلى استنتاجات مختلفة اختلافا ملحوظا حول جملة من القضايا والمفاهيم كأصل الكون والإنسان والحياة، والعدل والحرية، والفقر، وتوزيع الثروة، والسلطة، والانتماء والصراع، والحرب والسلم، والإثم والعيب، إلخ.
- ما هو تأثير محددات هوية الفرد (مثل: عِرْقه وجنسه ولغته وانتمائه الجغرافي إلخ) على رؤيته للعالم؟

وتوجد عموما، ثلاثة أنواع من رؤى العالم:
- الرؤى العلمية: وتقوم على دعائم ثلاث: الدعامة التجريبية (Empirism)، والدعامة العقلانية (Rationalism)، والدعامة الشكّيّة (Skepticism)،
- الرؤى الفلسفية: وتقوم على دعائم أربع: المنطق/التفكير المنطقي (Logic/Logical Reasoning)، الاستنتاج الاستنباطي من العام إلى الخاص (Deduction from General to Specific)، الاستنتاج الاستقرائي من الخاص إلى العام (Induction from Specific to General)، الرياضيات (Mathematic)، التخمين (Speculation).
- الرؤى الدينية للعالم: تقوم على دعامتي العقل والنقل (أو الوحي).

وتوجد عدة نماذج لمقارنة مختلف رؤى العالم، غير أننا نكتفي هنا بالإشارة لمثال واحد فقط يمكن أن يشكّل الإطار الأشمل للمقارنة:





وتمثل دراسة ومقارنة "رؤى العالم" محور الدراسات المعاصرة للأديان، لما توفره من زاوية نظر واسعة تساعد في فهم المشاكل الناجمة عن الانطباعات المتراكمة والمتولدة عن الدراسة التجزيئية للأديان. والمقصود هنا بـ"الدراسة المعاصرة للأديان" هو دراستها كأحد أبعاد الحياة، ومحاولة فهمها في السياق التاريخي، ومن خلال التقاطعات الثقافية في ما بينها، على ضوء الأدوات المعرفية التي تتيحها مختلف التخصصات العلمية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة، إلخ. وذلك من أجل تسليط الضوء على حركتها وأثرها في الواقع الإنساني. وتمثل هذه الدراسة إطارا موازيا يتقاطع أحيانا، وبشكل طبيعي، مع العلوم السياسية والاقتصادية. وإذا جاز القول بأن الإنسان "حيوان سياسي بطبعه"، و"حيوان اقتصادي بطبعه"، فهو أيضا "حيوان متدين بطبعه". فليس من أحد، سواء متدينا أو ملحدا، إلا وله رؤية خاصة لذاته وللعالم من حوله، تشكل الخلفية التي ينظر من خلالها لحياته ولحياة الآخرين من حوله. ولذلك فمن الضروري دراسة الأديان من خلال البحث العميق في المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تولّدها لدى الناس فيتحركون على أساسها.

ويعتمد تحليل "رؤية العالم" الناتجة عن الدين على شرح الرؤية وفهمها من خلال ربط الأفكار والمعتقدات الدينية بالرموز والممارسات (أو الشعائر)، بحيث لا يكون التحليل مجرد سرد للمعتقدات النظرية، بل يتم استحضار المعتقد والوعي والممارسة معا، إذ أن رؤية العالم "ليست صورة ساكنة من الرؤية النظرية ولكنها مرجعية يتم تفعيلها لتوجيه الأداء والممارسة، وتكون نتيجتها تعبيراً عن قيمة ما نقوم به من عمل، وليس ما قيل أو يمكن أن يقال" .

وبالنسبة للفرد، تتشكل رؤية العالم بطريقة تدريجية بطيئة وغير واعية (في أغلب الأحيان) في مسار أشبه بعملية الامتصاص، واعتمادا على التعليم والتنشئة والثقافة التي يعيشها. وبالتالي فإن "رؤية العالم" غير ثابتة بصورة مطلقة، بل تبقى في تشكّل وتغير وحركة دائمة، حتى وإن كانت معالمها الرئيسية تبدو أكثر استقرارا. ويستوي في هذا الأمر المتدينُ وغيرُ المتدين.

* المسلمون و"رؤية العالم": نحو "علم فرق" معاصر:

على ضوء ما تقدم، وإذا أردنا الانتقال من العام إلى الخاص، يمكن القول إن دائرة المسلمين لا تختلف عن هذا الإطار، وبالتالي لا يمكن الحديث في الواقع الراهن عن رؤية كونية موحدة للمسلمين، خلافا للواقع الإسلامي السائد لقرون طويلة مضت، والذي تميز بحالة كبيرة من الانسجام والوحدة الفكرية والرؤية المشتركة. وإنما يوجد حاليا تنوع إسلامي كبير، ورؤى إسلامية مختلفة للعالَم داخل الرؤية الإسلامية الجامعة، نتجت عن عوامل كثيرة ومتشابكة، واستجابت للتغييرات الاجتماعية المتزايدة في العالم نتيجة حركة الهجرة والتنقل من بلد إلى بلد، وتلاشي الحدود الثقافية من خلال أدوات الإعلام والتواصل الحديثة كالفضائيات والإنترنت .

أضف إلى ذلك أن الحديث عن رؤية العالم، كما يؤكد د. فتحي حسن ملكاوي، إنما هو: "حديث عما يمتلكه الفرد الإنساني أو الجماعة من إدراك ووعي وفهم، وليس عن شيء آخر لا يتمثل في الإدراك الإنساني. فالذين يميزون بين رؤية معينة واقعية يمتلكها الفرد بالفعل أو تمتلكها الجماعة بالفعل، وبين رؤية أخرى في صورة نظرة مثالية، إنما يتحدثون في واقع الأمر عن فهمهم الفعلي لتلك الرؤية المثالية وهي في نهاية المطاف رؤية بشرية.. وربما يعتمد الإنسان في تشكيل رؤيته على مصدر رباني علوي، كما يعتمد في إيمانه بقضية من القضايا على آية قرآنية. لكن الدلالة الكاملة والمطلقة لهذه الآية شيء والفهم البشري لها شيء آخر" .

وتشكل القضايا التالية أهم المعايير التي يمكن على ضوئها تحديد الفوارق في الرؤى الإسلامية للعالَم ، ونذكرها هنا في غير ترتيب:
- من هو المسلم، ومن هو الكافر
- تعريف الإيمان، والكفر
- مفهوم التكفير وتطبيقاته
- التعامل مع القرآن الكريم
- التعامل مع السنة النبوية
- تحديد الأصول والفروع في الدين
- حديث الافتراق
- تقسيم المعمورة
- مكانة الصحابة وأهل البيت والسلف
- التعددية المذهبية
- التوسل
- مفهوم السنة والبدعة
- الإمامة والخلافة
- الحاكمية والطاعة
- الجهاد والعنف
- جاهلية المجتمع
- الهوية الدينية والهوية الوطنية
- مفهوم الأمة
- الشورى والديموقراطية
- الإصلاح ووسائل التغيير
- الإسلام والقومية
- الإسلام والليبرالية
- العلاقة مع الآخر
- العلاقات الدولية
- الأقليات الدينية
- الحرب والسلم والدعوة.

ولا شك في أن الاهتمام بدراسة التنوع الإسلامي والفوارق المؤثرة بين المسلمين على أساس المعايير المذكورة، من شأنه أن يساهم في إنشاء (علم فِرق) جديد، يقوم على أساس تحديد مختلف الرؤى الإسلامية للعالم.

الأبعاد السبعة للدين

محمد بن جماعة

يقترح عالِم الأديان السكوتلندي نينيان سمارت (Ninian Smart) إطارا نظريا بسبعة أبعاد لدراسة الدين ورؤيته للعالم:
- البعد الأول: العقائدي والفلسفي (Doctrinal and Philosophical dimension): يحتوي الدين على نظام متكامل من المعتقدات. فالإسلام، مثلا، يقوم على الإقرار بوجود إله واحد لا شريك له، وأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) عبد الله ورسوله، أرسله للناس كافة بشيرا ونذيرا، وهكذا... وتشكل هذه الإقرارات، في مجموعها، النظامَ الاعتقادي للإسلام حول ذات الله وصفاته، والعلاقة بين الخالق والكون، وبين الخالق وبقية المخلوقات، بما فيها البشر.

- البعد الثاني: القصصي أو الإخباري (Narrative or Mythic dimension): ويشمل القصص ذات الدلالة الدينية، التي تروى كتابةً أو شفويا، للإخبار والاعتبار والإلهام. وقد تكون هذه القصص رمزية أو تحكي وقائع تاريخية سابقة. 

- البعد الثالث: الأخلاقي والتشريعي (Ethical and Legal dimension): ويشمل جملة الضوابط والأحكام والأخلاق والتعاليم التي يأتمر بها المؤمن في حياته اليومية.

وتشكل الأبعاد الثلاثة الأولى ما يمكن تسميته بـ"شبكة الاعتقاد" أو "الشبكة الإيمانية". غير أن هذه الشبكة لا يمكن فهمها فهما سليما وكاملا إلا في سياق التجربة والممارسة. فالإيمان بالله ورسوله في الإسلام، مثلا، لا يكفي أن يكون إيمانا نظريا ما لم يصحبه التوقير والمحبة القلبية والرضى، واستحضار وجود الله تعالى ورقابته في حياة الإنسان اليومية، واستشعار نعمه وآلائه.

- البعد الرابع: التطبيقي والشعائري (Practical Ritual dimension):يحتوي الدين على بعد شعائري، يتمثل في الصلوات والطقوس والحركات والهيئات والأنشطة والأدعية والأذكار والأعياد والمواسم التي يتعبد بها المؤمن.

- البعد الخامس: التجريبي والشعوري (Experiential and emotional dimension): ويشمل ردود فعل المؤمن حين يواجه سياقا دينيا يشعر بعمقه، فيتحول إلى بكاء أو خشوع، أو خوف أو رجاء، أو نشاط أو غضب، أو رؤيا أو إشراقة روحية، إلخ.

- البعد السادس: الاجتماعي والمؤسساتي (Social or Institutional dimension): ويمثل الثمرة الاجتماعية والتنظيمية للممارسة الدينية، في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض، وفي علاقتهم بغير المؤمنين، وفي علاقة الرجال بالنساء، والأطفال بالكبار، وتوزيع السلطة والوظائف والأدوار.

- البعد السابع: المادي (Material dimension): ويمثل ثمرة لقاء التجربة الدينية مع مظاهر الثقافة الإنسانية، مثل الموسيقى، والفن، والخط، والهندسة المعمارية، واللباس والزينة، والأدوات المستخدمة في أداء الشعائر إلخ.
ولا تشكل هذه الأبعاد أجزاءً من الدين يستقل كل جزء منها بذاته، وإنما هي أبعاد مختلفة حاضرة في نفس الوقت في علاقة تكامل وتأثير متبادل.



ويقترح سمارت دراسة هذه الأبعاد بترتيب عملي متسلسل يختلف عن الترتيب النظري السابق، ولذلك لتسهيل فهم ورسم العلاقات بينها:
1- البعد التجريبي والشعوري (Experiential and emotional dimension)
2- البعد الاجتماعي والمؤسساتي (Social or Institutional dimension)
3- البعد القصصي أو الإخباري (Narrative or Mythic dimension) 
4- البعد العقائدي والفلسفي (Doctrinal and Philosophical dimension)
5- البعد التطبيقي والشعائري (Practical Ritual dimension)
6- البعد الأخلاقي والتشريعي (Ethical and Legal dimension)
7- البعد المادي (Material dimension)

فللأفراد تجارب (1)، وهم يجتمعون مع الآخرين (2)، ويحاولون تبادل وفهم تجاربهم من خلال القصص والأخبار (3)، وخطاب عقلاني مقبول (4)، ويسعون لإبراز هذه التجارب والمعتقدات في حياتهم من خلال أداء الأعمال التعبدية (5) والأعمال اليومية العادية (6)، والأدوات والوسائل المادية التي يبتكرونها (7).

2016/06/21

أصناف المتعاملين مع القرآن

محمد بن جماعة


الناظر للمسلمين يلاحظ تنوعا واختلافا فيما بينهم في كيفية التعامل مع القرآن ومظاهر التفاعل معه والتأثر به.. وحين يسألنا غير المسلمين عن سر هذا التأثر والتفاعل مع القرآن، أو حين نسأل نحن أيضا المسلمين الجدد عن سبب دخولهم في الإسلام، نجد في أغلب الإجابات تعبيرا عن مشاعر وجدانية وتأثر شديد بهذا الكتاب.

ويتجاوز الاهتمام بالقرآن دائرة المؤمنين به وبربانية مصدره ليشمل غير المسلمين، من باحثين وغيرهم.

ولو أردنا النظر إلى أصناف المتعاملين مع القرآن فقط من الزاوية الشعورية الوجدانية لوجدنا تنوعا كبيرا. فالمسلمون يحبون القرآن، غير أن حبهم هذا يظهر بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة وتعبيرات متعددة. وكلهم يشعرون بالانتماء له، غير أن منهم من يقنع ويرضى بالوقوع تحت سلطان القرآن فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه بدون الاهتمام بأي شيء آخر. ومنهم من يدافع عن هذا الانتماء ويحرص على دعوة الآخرين لمشاركته هذا الحب والانتماء للقرآن. ومنهم من يدخل في دائرة أهل القرآن وخاصته الذين يحفظونه ويعلمونه ويخدمونه ويفسرونه.

وكذلك الشأن بالنسبة إلى غير المسلمين من المتعاملين مع القرآن تختلف مشاعرهم، بين عدم الاكتراث والاحترام والغيرة والكراهية. وإن كانت غالبيتهم مشتركة في عدم الشعور بالانتماء للقرآن، فمنهم من يتعرف على القرآن بواسطة محبيه وأتباعه.

ولبيان هذا الأمر، نستعرض صورتين مجازيتين للمتعاملين مع القرآن، يمكن من خلالهما أن نفهم بعض جوانب هذا التنوع من زاويتي الانتماء والمشاعر.

* تقسيم د. محمد فضل الرحمن الأنصاري:

يقوم التصنيف الأول للمتعاملين مع القرآن على صورة مجازية ذكرها د. محمد فضل الرحمن الأنصاري، وهو أستاذ جامعي باكستاني الأصل، متخصص في الدراسات القرآنية، درّس في الستينات بجامعة ماكجيل بمونتريال، ثم في السبعينات والثمانينات بجامعة شيكاجو.. ففي كتاب له نشر بالإنجليزية في مجلدين بعنوان: ""The Quranic Foundations & Structure of Muslim Society"" (أسس المجتمع المسلم وبنيته في القرآن)، شبّه فضل الرحمن القرآن الكريم بـ(الدولة) فقال: "القرآن دولة، والبشر المتعاملون مع الدولة أربعة أنواع:
- سلطة
- مواطنون
- أجانب
- غزاة محاربون".




والمقصود بالسلطة والمواطنين: أولئك الذين يتبنون القرآن، ويتقاسمون الأدوار بحسب علاقتهم بالقرآن.. فقد نجد فيهم من يمثل السلطة (ونعني بهم الفقهاء والعلماء)، ومنهم من يقوم بدور الجنود المدافعين عن حدود الدولة، والبقية يمثلون العامة الذين يعيشون بهدوء وبساطة في كنف القرآن..
وأما (الأجانب) فهم الذين لا يتبنون قوانين القرآن ومبادئه، ولا يشعرون بالانتماء له، ولا يخضعون لسلطته..
وأما (الغزاة المحاربون) فهم الأعداء الذين لا يكفّون عن محاربة الدولة-القرآن، بإهانتها والتعدي على حرماتها وحدودها، أو الاعتداء على مواطنيها وسلطتها.

* تقسيم د. فريد إسحاق:

أما التقسيم الثاني، فقدمه أستاذ جامعي آخر، هو د. فريد إسحاق في كتابه المنشور بالإنجليزية والفرنسية " The Qur'an: A User's Guide"، (القرآن: دليل الاستعمال). وفريد إسحاق مفكر إسلامي من جنوب أفريقيا، ودرّس في جامعات بريطانية، وعرف في السابق بنضاله ضد نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا..

يقسّم فريد إسحاق المتعاملين مع القرآن إلى ستة أصناف. وتكمن قيمة هذا التقسيم وطرافته في اعتماده على مفهوم الحب والكراهية لتقسيم المتعاملين مع القرآن. فقسّم المحبّين للقرآن إلى ثلاثة أصناف تمثل بمجموعها (الأمة) أو (النحن):
- المحب الذي لا يملك نظرة نقدية
- المحب المتدين
- المحب صاحب الروح النقدية

وقسّم (الآخرين) أو (بقية العالم) إلى ثلاثة أصناف أخرى تتعامل مع القرآن على أساس مشاعر لا تندرج ضمن أنواع الحب، وإنما تتراوح بين التعاطف وعدم الاهتمام والغيرة والكراهية للقرآن ولمن يحبون القرآن:
- صديق المحب
- الناقد
- المشكك




1- الصنف الأول (المحب مسلوب اللب): يمكن مقارنته بحال المحب الذي لا يملك نظرة نقدية تجاه محبوبته، أو لنقل لا يرغب في النظر إليها بروح نقدية. فهو قانع مكتف، وحضورُ محبوبته وجمالُها يجعلانه في حالة وجدانية تنسيه واقعه وأحزانه، وتسمح له بأن يكون في حالة من الاستقرار واليقين في عالم مليء بالاضطراب من حوله. والقرآن بالنسبة لهذا المحب يمثل كل شيء.

ولذلك فهو يستغرب حين يسأله الآخرون: "ما الذي تجده في القرآن حتى تتعلق كل هذا التعلق؟ - فيجيب: ماذا تقصدون؟ أرى فيه كل شيء، وهو يوفر لي جميع ما أحتاجه.. ألم ينزل (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (سورة النحل، 16:89؟ ألا ترى أنه (شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس 10:57)؟ فأن تكون مع القرآن يعني أن تكون مع الله".

هذا النوع من المحبّين، في غالبه، تراه مكتفيا قانعا بتلذذ هذه العلاقة مع محبوبته ولا يطرح على نفسه أية تساؤلات بخصوصها. وحين تأتيه بعض هذه التساؤلات من الخارج، سواء فيما يتعلق بشكل محبوبته، أو إن كانت ذات نسب شريف، أو ولدت في (أُمِّ القُرَى)، أو إن كانت جواهرها ودررها حقيقية وذات قيمة، فإنه يعتبر أن مبعث هذه التساؤلات هو الغيرة والحسد والرغبة في الانتقاص من جمال المحبوبة. ولذلك فهذا النوع من المحبّين للقرآن، وإن كانوا في ظاهرهم محبين عاديين إلا أن تعلقهم به شديد، وهم يتحاشون سماع مثل هذه التساؤلات لأنها تشكل لهم نوعا من الشغب الذي يشوش عليهم لذتهم في حب القرآن.

2- الصنف الثاني (المحب المتعبد): هو صنف المحبّين الراغبين في شرح مظاهر جمال محبوبتهم للآخرين، وأسباب تعلقهم بها، ولماذا يعتبرونها هبة من الله ويجب على الجميع أن يعترفوا بذلك. وهذا النوع من المحبّين يهتم بأدق التفاصيل في فضائل القرآن وأصله وتاريخه وطبيعته الأخاذة. وهذا المحب العاشق والعارف في نفس الوقت، تراه يتحسّر ويستغرب من عجز الآخرين عن إدراك جمال محبوبته، وانسجام هيئتها وغزارة حكمتها، التي تفوق الوصف وتستوجب الاحترام.

والقرآن في نظر هؤلاء المحبّين "فريد في صنعته، وليس يمنع الآخرين من إدراك ذلك والاعتراف به إلا العمى والغيرة والجهل". وهذا هو صنف العلماء المتدينين.

3- الصنف الثالث (المحب المفكّر): هو صنف المحبّين الذين يمتلكون ملكة نقدية. وهذا النوع مقتنع بسحر محبوبته وجمالها، غير أنه يرى مع ذلك أن مواجهة التساؤلات المشككة في طبيعة محبوبته وأصولها ولغتها، تمثل ضريبة حبه القوي وتعلقه الشديد بمحبوبته، بل يرى فيها أيضا فرصة لتعميق هذا الحب وتقوية هذا التعلق.

ويتميز هذا النوع من المحبّين بالقدرة على الحوار مع النوعين السابقين من المحبّين وأيضا مع الصنفين التاليين. وهو ينظر إلى الصنفين الأولين من المحبّين بنوع من عدم الرضى لأنه يرى أن محبتهما لا تؤدي إلى إبراز القيمة الحقيقية والكاملة القرآن. وهو يرى أنه لا يستطيع الاكتفاء بالنظر إلى الجوانب الظاهرة من جمال القرآن، وإنما يعتقد أن القرآن قادر على ما هو أكثر من ذلك، بحيث يجب أن يعود من جديد صانعا للحضارة والثقافة والفنون في مجتمعنا المعاصر.

4- الصنف الرابع (صديق المحب): ينتمي إلى "العالم الآخر"، عالم غير المسلمين، ويمثل خطا فاصلا بين الصنف السابق (صنف المحب ذي الروح النقدية) والصنف اللاحق (صنف المشكّك في جمال القرآن). وهذا الصنف يصفه فريد إسحاق بأنه صديق المحب، ويشبهه بحالة بعض الأصدقاء الذين ينظرون بعين الإعجاب إلى أصدقائهم الأزواج ويتساؤلون: (هل ما زال يحب أحدهما الآخر؟ وهل سيستمر تعلق أحدهما بالآخر بنفس الوتيرة السابقة؟).

تلك هي حالة الصديق غير المسلم القريب من أحد المسلمين، والذي ينظر للقرآن بعين التقدير والاحترام، ويرغب في معرفة تفاصيل أكثر عن مدى استمرار تعلق صديقه بهذا القرآن. وهذا الصنف من المتعاملين مع القرآن يسمهيم فريد إسحاق: الملاحظين المشاركين، ليس لأنهم يتبنون الإسلام، وإنما لأنهم يتبنون حساسية أصدقائهم المسلمين تجاه القرآن وتجاه الإسلام. ويشترك هذا الصنف مع الصنف السابق في المعاناة من عدم رضى الآخرين عن علاقة الصداقة بينهما، فهو متهم من قبل غير المسلمين باقرتابه من المسلمين أكثر من اللازم، في حين يتهم المسلم الذي يصادقه من قبل المسلمين الآخرين بأنه يظهر المودة لغير المسلمين.

هذا الصنف ينكر محبة القرآن ولكنه يحترمه ويشعر بالمسئولية الكبيرة تجاه مشاعر المحبّين للقرآن. ويعتبر أن جمال القرآن ظاهر في عيون محبيه وأتباعه، وإذا كان هؤلاء الأتباع يعتبرونه كلام الله، فليكن الأمر كذلك، وليُقْبَل القرآن بهذه الصفة التي يؤمن بها محبّوه.

5- الصنف الخامس (المراقب الناقد): يمكن تسميته بـ"المراقب الناقد" الذي لا يشعر بأي مسئولية تجاه مشاعر المحب، ولا يهتم سوى بملاحظة القرآن والبحث في الوقائع المتعلقة به. وهذا الصنف يقدم نفسه كباحث غير معني بإثبات أو نفي المصدر الإلهي للقرآن، ولكنه في المقابل لا يتوانى في اتهام القرآن بأنه مجرد نسخة مطورة من التراث اليهودي المسيحي.

ويرى فريد إسحاق أن هذا الصنف المتلصص، وإن ادّعى الموضوعية وعدم الاهتمام، لا يلقى ترحيبا من الأصناف الأربعة السابقة، لأن من المعروف أن الحياد في البحث المعرفي غير ممكن.

6- الصنف السادس والأخير (المشكّك الكاره): هو صنف المشككين في قيمة القرآن وجماله، وهم في العادة متعلقون بمحبوبة أخرى، كالإنجيل أو الإلحاد مثلا. ولأنهم قلقون من ازدياد أتباع القرآن ومحبيه، فهم يحاولون إثبات بشرية القرآن وأنه لا يتميز عن غيره من التجارب الإنسانية والإنتاج المعرفي البشري. وإذا عجزوا عن تحويل المسلم إلى المسيحية أو الإلحاد، تراهم يتجهون إلى التشهير وإطلاق صيحات الفزع من خطر تعلق المسلمين بالقرآن وتعاظم دورهم السياسي، وكلما رأوا سلوكا خطيرا من المحبّين للقرآن سارعوا باتهام القرآن بأنه وراء هذا السلوك: (أليس القرآن هو الذي يدعوهم للقتل؟ أليس القرآن هو الذي يجعل من المرأة ذليلة مهينة؟ إلخ." 

هذا هو إذن تقسيم فريد إسحاق لأصناف المتعاملين الستة مع القرآن.. وقد فصّله كثيرا في كتابه المذكور، الذي يحتوي على كثير من الأمور الجديرة بالقراءة والتأمل، وإن كان من الممكن أن نختلف معه في بعض التفاصيل.

ولعل ما يهم التركيز عليه في ما يمكن استنباطه من هذين التقسيمين، أمور ثلاثة:

الأول: أننا نحن المسلمين نشترك جميعا في حب القرآن والتعلق به والشعور بالانتماء له.. ولكن قد يظهر حبنا بأشكال مختلفة، ويتجسد انتماؤنا بصور وأدوار متنوعة.
ولذلك، فلعلنا نخطئ إذا وجهنا اللوم لمسلمين آخرين لمجرد حبهم للقرآن بشكل مختلف عن حبنا له.
ولعلنا نخطئ أيضا إذا اعتبرنا مظهر انتمائنا للقرآن هو الوحيد المشروع.

والثاني: أن غير المسلمين ليسوا سواءً في علاقتهم بالمسلمين ومقدّسات المسلمين. ولذلك يجب التفريق في المعاملة وعدم جمعهم في سلة واحدة. وغير المسلم قد يكون غير مؤمن، ولكنه ليس بالضرورة عدوا محاربا. فالفرق كبير بين غير المكترث للقرآن والمتعاطف معه (أو مع من يحب القرآن من المسلمين)، والمحب لغير القرآن الناظر له بعين الغيرة، والكاره الذي يكيد المكائد.

والثالث: أن تقسيم فريد إسحاق يشير إلى قيمة المنطق الوجداني للبشر. وهو يذكّرنا بما أشار إليه الكاتب الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (الأفكار والمعتقدات: التكوين والتطور) من أنّ المنطق الذي يحكم تفكير الإنسان وسلوكه ليس كله عقلانيا، وإنما هو عبارة عن تركيبة معقدة من خمسة أنواع من المنطق، تتراكم وتتزاحم في نفس الوقت فيما بينها. وهي: المنطق العقلاني، والمنطق الوجداني العاطفي، والمنطق الاعتقادي، والمنطق الجماعي، والمنطق البيولوجي.