2010/11/03

هل مجاملة الآخرين خطأ؟

لأسف، هناك من يرى أن المجاملة لا تليق بالحوارات العلمية، وكأن الحوارات العلمية محكوم عليها بالحدة والجدية والصرامة والغلظة عند الاختلاف.
فإذا كانت المجاملة عفة في اللسان والقلم يكسو المرء بها لفظه، ويبين عن طيب معدنه وسلامة قصده، وحرصه على الهداية، وبعده عن الهوى والحظ الشخصي، فما العيب فيها؟
========

كتب أحد الأصدقاء في هذا الرابط:
http://www.facebook.com/note.php?note_id=144511708112
كلاما جميلا يدعو فيه الآخرين إلى عدم مجاملته لأن المجاملة لا تساعده على بيان أخطائه..

وهذا الكلام محمود، ودليل على محبة الحق وإخلاص المودة، وأسلوب الكتابة ما هو إلا وجه من وجوه الأدب الجم وحسن الخلق، _هدانا الله جميعا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا هو_.

غير أنني أود هنا التعقيب على ما جاء فيه من كلام.

للأسف، هناك من يرى أن المجاملة لا تليق بالحوارات العلمية، وكأن الحوارات العلمية محكوم عليها بالحدة والجدية والصرامة والغلظة عند الاختلاف.

فإذا كانت المجاملة عفة في اللسان والقلم يكسو المرء بها لفظه، ويبين عن طيب معدنه وسلامة قصده، وحرصه على الهداية، وبعده عن الهوى والحظ الشخصي، فما العيب فيها؟

وهل أصبحت "المجاملة" خلقا ذميما حتى يشتكى من وجودها في الحوارات الشرعية والعلمية، أو يطلب من الآخرين تفاديها ؟

ولعل مرد هذا الظن يرجع إلى الخلط الناشئ عند الكثيرين من أن المجاملة تعني النفاق والمداهنة. وهذا الخلط أدى إلى آفة سلوكية لدى كثير من المتدينين، بل والدعاة وطلبة العلم والعلماء، للأسف الشديد. وما ذاك إلا لجهل الكثيرين بالفروق الللغوية، مما يؤدي إلى استعمال العبارات الممدوحة في مقام الذم، فتفقد معناها الأصلي، وينشأ الخلط.

المجاملة تعني معاملة الآخرين بالجميل، والجميل لا يمكن أن يكون مذموما أو مقبوحا.

والمجاملة مبعثها حالة نفسية ترغب في إظهار حسن معاشرة الناس، ببسط الوجه لهم، وتخيّر أطيب الكلام عند مخاطبتهم، ومجادلتهم (عندما يستلزم الأمر مجادلتهم) بالتي هي أحسن. وهل هناك أسلوب أحسن من الملاطفة والتودد والمجاملة لاستمالتهم إلى الحق الذي نراه؟

والمجاملة نوع من أنواع الرفق، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما انتزع من شيء إلا شانه.
والمجاملة من التواضع، والتواضع من شعب الإيمان.

والمجاملة أسلوب لتحاشي المراء، وترك الرجل المراء ولو كان محقا جزاؤه بيت في ربض الجنة، كما في الحديث.
والمجاملة واجبة تجاه من أسدى إلينا معروفا. وهل هناك من هو أحق بإخلاص الود والمجاملة ممن يفيدنا بعلمه، وأو يحيلنا إلى شرح آية أو حديث، أو إلى معلومة، أو مقالة أو فائدة في كتاب أو رابط على الإنترنت؟ بل وأيضا ممن يهدي إلينا عيوبنا؟

والمجاملة مظهر من مظاهر حسن الخلق وسماحته، ولين العريكة، وكرم المعاشرة.
وفي الحديث: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".

ولو عددت مكارم الأخلاق التي لها صلة بالمجاملة لوجدت أن كثيرا منها يمس منها بطرف. ولا عجب في ذلك، فالمجاملة مشتقة من الجمال، فكل خلق جميل في معاملة الناس هو من المجاملة.

والمجاملة تكون للمؤمن، أيا كان. وهي للأخ والصديق أوجب. أو ليس أكثر أعضاء هذا المنتدى ممن جمعتهم الأخوة في الله والصداقة والزمالة؟

والمجاملة حين تكون مع المؤمنين، تصبح مظهرا من مظاهر الحب في الله.

وحين تكون مع الغير المؤمنين، تصبح أسلوبا مفيدا لاستدراجهم واستمالتهم إلى الحق. وهي من خلق الأنبياء في معاملة أقوامهم. أما الغلظة فهي استثناء يخص المحاربين فقط، لا أجد في نصوص القرآن والسنة دليلا على جعلها قاعدة أخلاقية في التعامل مع غير المؤمنين، فكيف بمن لا يحل لأحد إخراجهم من دائرة الإيمان، بحجة مخالفتهم أو بدعتهم؟

ولعل مما امتحنا به في تراثنا الإسلامي تفشي سوء الخلق في سلوك الكثير من العلماء خصوصا في ردهم على مخالفيهم. وقد أخطأ الكثيرون في الاقتداء بهؤلاء العلماء في سوء خلقهم، ظنا منهم أن ذلك من الدين، ولو أخذوا منهم علمهم وتركوا سوء خلقهم لكان خيرا لهم. وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

ولقد تذكرت وأنا أقرأ هذا الموضوع، كلاما لطيفا لابن الأثير في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)، مفاده أن مدار البلاغة (هو الانتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة والمعاني اللطيفة الدقيقة في استدراج المخاطب). وهل هناك ما هو أدعى إلى استدراج المخاطب واستمالته من عبارة تجامله، وتدعو له بخير، وإن أخطأ في الفهم أو في التعبير أو في السؤال؟

وقد أشار ابن الأثير إلى بعض الشواهد القرآنية التي تعرض مجاملات من المؤمنين للمشركين كنوع من أنواع الاستدراج والاستمالة لهم، منها قول مؤمن آل فرعون لقومه: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ".

ومنها قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا "

لذلك أقول: إن المجاملة مطلوبة، وهي من حسن الخلق.

وأما إخواننا الذين لا يرون في حسن الخلق أسلوبا لائقا بالحوارات العلمية، فأقول لهم: (( إنكم لن تسعوا الناس بعلمكم، فسعوهم بأخلاقكم ))

Aucun commentaire:

Publier un commentaire