2013/12/12

ستة أفكار بسيطة في التعامل الذكي مع الأخطاء

الأخطاء لا مفر منها في الحياة.. وبعضها يتحول لدرس مستفاد، والبعض الآخر يبقى عثرة من العثرات.. وهذه ستة أفكار بسيطة للتعامل الذكي مع الأخطاء:

1- الاعتراف بالخطأ عند وقوعه.. فإنكار الخطأ، مع إدراكك لحصوله، قد يؤدي إلى وضع أسوأ.

2- المسارعة بإعلان تحمل المسئولية عن الخطأ.. كثيرون يسارعون لنسبة النجاح إلى جهدهم، ولكنهم يتنصلون من تحمل المسئولية عند ارتكابهم لخطأ.. المسارعة بإعلان تحمل المسئولية عن الخطأ يزيد في مصداقيتك لدى العقلاء.. أما غير العقلاء فلا تنزعج لموقفهم.

3- الاستمرار.. لا تسمح للخطأ بإحباطك معنويا.. فما حصل أصبح من الماضي، ولا يمكن تغييره، فلا تقسُ على نفسك.. اعترافك بالخطأ وقبولك للمسئولية عنه يعني أن الوقت حان لتجاوز المشاعر السلبية الماضية والنظر إلى الإجراءات الإيجابية الواجب القيام بها.

4- إصلاح ما يمكن إصلاحه.. فربما توجد بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها للتقليل من الأثر السلبي أو الضرر الناتج عن الخطأ.. اتخاذ إجراءات تصحيحية أو الاعتذار من شأنه تعديل الأثر السلبي لخطئك على الآخرين.. وإن وجد شيء يمكن أن يقلل من الأثر السلبي لخطئك، فسارع بالقيام به.

5- التعلم من الخطأ.. التجربة معلِّم جيّد شريطة الانتباه والرغبة في التعلّم.. ما الذي يمكن تعلمه من الخطأ؟ مما يعطي المصداقية أمام الآخرين أن تتحدث وتتقاسم مع الآخرين بعض الدروس التي استفدتها من تجارب الخطأ.

6- اجتناب تكرار الخطأ قدر الإمكان.. استحضر الدروس المستفادة من الخطأ في وعيك ولا تغفل عنها.. تكرار الأخطاء دليل على الغفلة والتهاون وضعف الاهتمام.

حديث النفس

أنا إنسان يخطئ ويصيب، ولستُ شخصا كاملا.. لستُ صديقا مثاليا، ولا أخا مثاليا، ولا زوجا مثاليا، ولا أبا مثاليا، ولا زميلا مثاليا، ولا مواطنا مثاليا، ولا متدينا مثاليا..

ولكنني أمتلك عقلا يقظا ومنتبها، لا يتركني أسقط في الغفلة لفترة طويلة..
أمتلك عقلا مُرهِقا، مهووسا بحب التعلم والاكتشاف والمقارنة، والبحث عن الحقيقة، واكتشاف الخطأ والصواب، والبحث عن الأفضل، والاستفادة من التجارب..
كل يوم في حياتي هو فرصة جديدة لي للتعلم وتطوير القدرات والمهارات، والممارسة والاستفادة، وتبادل الخبرات..

لا أنظر لنفسي على أنني الأفضل، ولا يدّعي ذلك إلا أحمق.. ولكنني أمتلك تقديرا عاليا للذات، في غير غرور.. ولا أحب تغليف تقديري للذات بتواضع كاذب ("وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ").. ولست ممن يحتقرون الذات بالمقولات التراثية المغلوطة التي تحض على خنق أي تقدير للذات، مثل (أُحِبُّ الصالحينَ ولستُ منهم).. بل أرى نفسي من جملة آلاف الصالحين، حتى وإن كانت لدي أخطاء وعيوب..

تقدير الذات واحترام الذات وحب الذات، أهم أداة نفسية في حياة الفرد.. واستهداف تقدير الفرد لنفسه من قبل الفرد نفسه أو من قبل الآخرين هو مظهر من مظاهر الشرّ..
ولذلك فأنا أحمي نفسي من الوقوع تحت تأثير احتقار الذات أو الانتقاص من الذات ("لاَ يُحَقِّرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ").. وأحمي نفسي من الوقوع تحت تأثير انتقاص الآخرين من قدري ("بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ").. وما أحبه لنفسي أحبه لغيري أيضا، وأحرص على ذلك قدر المستطاع..

وبالنسبة إلي، الإنسان اجتماعي بالفطرة، وبالتالي فلا معنى لحياة أي إنسان بدون تعاون مع الآخرين.. وأعتقد أن الحاجة الأساسية للفرد، من بين جميع الحاجات، إنما هي الانتماء لـ"جماعة" والشعور بالقيمة والأهمية والتقدير والاحترام والحب في الجماعة التي ينتمي إليها.. والجماعة المقصودة ليست واحدة بل هي جماعات متنوعة ومتعددة..

هذه الحاجة للشعور بالقيمة والأهمية والتقدير والاحترام والحب داخل الجماعة، مسألةٌ حياتية وشرط من شروط النمو الجسمي والعقلي والروحي للفرد، لا يمكن له أن يعيش بدونها.. وهو يتغذى بها من خلال الارتباط بالأم، ثم بالوالدين، ثم بالأسرة، والأقارب، والجيران، والأصدقاء، والزملاء، والمدرسة، والنادي، وعلاقة الحب والزواج، والجمعية، والجماعة، والتنظيم، والحزب، والعمل، إلى غير ذلك من دوائر الاجتماع والانتماء..

وبالتالي، فأي إنسان، مهما كانت مكانتُه أو مكانُه في الجماعة أو المجتمع، ويتطلع إلى وجود معنى لحياته، لن يجد المعنى السليم لهذه الحياة إلا من خلال المساهمة إيجابيا في حياة الآخرين.. وهو يرتكب خطأ شنيعا إذا ما اعتقد أن بالإمكان أن يجد هذا المعنى بمنآى عن الآخرين.

فمعنى الحياة بالنسبة إلي هو: أن أستمر في شغفي واهتمامي بالناس ومصالحهم، لأنني جزء لا يتجزأ من المجتمع، ومساهمتي مهمة وضرورية لتحقيق رخاء الجماعة أو المجتمع، كما أن مساهمة الجماعة أو المجتمع مهمة وضرورية في تحقيق رخائي وتوازني الشخصي.

في الرد على خطاب الترذيل والتخذيل.. الاستقالة مسئولية أخلاقية

الاستقالة السياسية أنواع.. بعضها سلبي وبعضها إيجابي، وبعضها محايد لا سلبية فيه ولا إيجابية..

من الاستقالات السلبية: تلك التي تأتي على خلفية شخصية بحثا عن الظهور أو المكانة أو احتجاجا على فقدانها، إلخ..

ومن الاستقالات المحايدة: الاستقالة لدواع صحية أو عمرية أو رغبة بالتفرغ لمهام اجتماعية وحياتية أخرى..

ومن الاستقالات الإيجابية: الاستقالة المبنية على نقد واقعي جاد (في مستوى التصور أو/و الممارسة)، والتي يعلنها المستقيل بعد فترة زمنية يقدّر أنه استنفد كل الخيارات المتاحة من أجل إبلاغ صوته النقدي والإصلاحي في الأطر الداخلية..

وحين يستنفد السياسي كل ما هو متاح له في طريق الإصلاح الداخلي، ويجد أنه محصور في إطار هيكلي يمتنع ويمنع من السماع والإنصات للأفكار المخالفة لما هو سائد، ويجد أنه يتعرض لحملة تشكيك مختلفة الأبعاد (في أفكاره أو مقترحاته أو قدراته أو كفاءته)، واتهام بمختلف الاتهامات الشخصية المزاجية، ويصل لقناعة بأن عضويته مختزلة في "الحضور والسماع والمباركة" في اللقاءات التنظيمية، وأنه مجرد "كومبارس" في مجموعة لا أثر لها ولا تأثير، مهمتها الأساسية الحضور لمنح المسئولين شعورا بالرضى عن الذات في آخر اللقاء.. حينها، تصبح الاستقالة "خيار أخلاقيا" يعبّر عن درحة عالية من "المسئولية الأخلاقية"..

للأسف الشديد، يبدو أن إسلاميي حركة النهضة ما زالوا لا يستوعبون ضرورة التمييز بين أنواع الاستقالات، ولا يستوعبون وجود بعد إيجابي في الاستقالة.. ولذلك، تراهم ينزعجون لأدنى استقالة، ويخافون من أن تتحول إلى ظاهرة، فيعتمدون على أدوات مختلفة تتراوح بين الترذيل والتخذيل:

1- ترذيل المستقيلين: وتهوينهم والحط من قدرهم، والتشكيك في نواياهم وإظهارهم بمظهر العاجزين أو المتخاذلين أو الانتهازيين أو القاصرين عن الفهم..

2- تخذيل المترددين: في داخل الحركة، الراغبين في السير على منوال المستقيلين.. من خلال التحذير واستحضار مفاهيم الصراع الوجودي، والاستقطاب الإيديولوجي/الثنائي: "التولي يوم الزحف" - البقاء شجاعة وبطولة - الاستقالة بطالة وليست رجولة - الاستقالة ضلالة.. والاستقالة خيانة.. والتعبير عن أسباب الاستقالة هو إفشاء لأسرار مؤتمن عليها.. ومخاطر الفرقة، إلخ...

أمثال هؤلاء ينسون أن البقاء في الأطر المعطّلة إضاعة للوقت والجهد..

وينسون أن البقاء في أطر "الشورى التجميلية" إهانة لعقول الأضء ولكرامتهم وحقهم في التعبير السياسي عما يمثل الجماعة السياسية..

وينسون أن البقاء في مثل هذه الأطر فيه إدامة للماكينة المتنفذة ووقوف في صف الظلم التنظيمي الداخلي..

مشكلة هذا المنطق المتفشي في صفوف النهضاويين، أنه يتناقض جوهريا مع الخطاب الإسلامي والقرآني، من حيث لا يشعرون..

جوهر الخطاب القرآني، في ما يتعلق بالعمران، قائم على مفاهيم العدل (الحق) والإحسان (الإتقان)، والمحاسبة.. وتأتي مفاهيم الصبر والرحمة كقيم وآليات داعمة ومكمّلة لمفهومي العدل والإحسان.. ولذلك جاء في سورة العصر: "وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"، بما يعني ضرورة تقديم قيمة "الحق" على قيمة "الصبر"..

مشكلة العقلية المتفشية في النهضاويين أنهم يحرصون ويكثرون من التواصي بالصبر، بينما يهملون بشكل شبه تام التواصي بالحق، أو في أفضل الحالات يجعلونه تاليا للصبر..

والأمثلة العملية من واقع ما يحصل في الهياكل التنظيمية كثيرة، لو أردت تعدادها.. ولكنني أكتفي بما أعلنت عنه في تعلق باستقالي الشخصية:

خلافي مع رئيس مكتب النهضة في كندا، والذي أدجى إلى الاستقالة، كان بالإمكان تجاوزه ببساطة وطي صفحته والاستمرار في العمل في داخل النهضة، لولا وضعية الخذلان والتهاون وتغليب منطق الصبر على منطق الحق والعدل، في جميع المستويات: في مجلس إدارة كندا، ثم في المكتب التنفيذي لكندا، ثم في رئاسة مجلس الشورى، ثم في المكتب التنفيذي المركزي، ثم في مجلس الشورى، ثم في جميع القياديين في الشورى والتنفيذي، والمكتب السياسي، ونواب النهضة في التأسيسي، ومسئولي المكاتب المركزية، وقيادة المهجر، الذين اتصلت بهم فردا فردا تقريبا، بالتلفون والإيميل من أجل التوسط بالحسنى ورفع المظلمة والمهانة التي أزعم أنني تعرضت لها..

وكنت في كل يوم تقريبا أرسال للتذكير باستعدادي لقبول أي تحيكم في الموضوع والاعتراف بالخطأ إن صدر رأي بتخطئتي في الموضوع..

ولكن لم يحصل أي نوع من الحرص على ابتغاء الحق والعدل والإنصاف.. بل كانوا في كل الحالات، يحرصون علي بالصبر ولا يحرصون في المقابل على رئيس المكتب في كندا بالتراجع عن مظلمة التجميد..

واستمر الأمر لمدة 100 كاملة (يعني: 3 أشهر ونصف)..

ومن المهازل أنهم حتى بعد كل تلك الفترة، ونشر استقالتي، واصل عدد من هؤلاء القياديين في مراسلتي وطلب العدول عن الاستقالة والصبر... مرة أخرى!!!

هذا المثال الشخصي له أمثلة مشابهة كثيرة أعرفها بالأسماء والجهات، ولن أذكرها في العلن حرصا على الإيجابية.. ولكن في المقابل، أتمنى من الإصلاحيين المخلصين الباقين داخل النهضة، وخصوصا في مجلس الشورى،  أن يفتحوا تحقيقا داخليا بشأنها، وأن يتوقفوا عندها وعند أسبابها وأخطاء كل مستويات القيادة في التعاطي معها.. ومحاسبة من كان واجبُه حلّها وتخاذل عن حلها..

في غياب هذه المحاسبة الجادة وإقالة أو إبعاد المسئولين عن هذه الأخطاء التنظيمية، سيكون كلامكم عن وحدة الصف، والصبر مجرد كلام ممجوج مثير للاشمئزاز.. وأخشى أن يصبح نوعا من النفاق..

الإصلاح الدّاخلي أو تبرير أخطاء الحاضر باعتماد فزّاعة المستقبل المجهول

1- الخوف من المستقبل يدفع الناس إلى التمسك بالحاضر.. والأمل في مستقبل أفضل، يدفعهم للتغيير.. وما يحكم نزعة الشعوب والجماعات نحو هذا أو ذاك هو درجة عدم الرضى:
- فإذا حصل عدم رضى عن الواقع، يميل الناس للتمسك بالحاضر مع محاولة إصلاحه بالتدرج..
- وإذا تعمق الشعور بعدم الرضى أكثر، بدأوا بالتذمر والتعبير عن الرغبة في التغيير..
- وإذا تعمق تذمرهم أكثر ووصلوا لحالة من الإحباط، يميلون للتغيير الجذري..

2- انتقال الأجسام الاجتماعية الكبيرة لحالة التذمر والإحباط ليس عملية سهلة.. وإنما تحتاج لتراكمات هائلة.. ولذلك غالبا ما يلجأ الناس إلى تغليب التمسك بالحاضر خوفا من المجهول.. ولذلك أيضا، لا تحصل الثورات أو التغييرات الاجتماعية الهائلة إلا مرة في كل 100 سنة أو 200 سنة..

3- فكرة التمسك بالحاضر خوفا من المجهول فكرة متكرسة في مختلف الثقافات الشعبية.. وفي وعينا الشعبي التونسي يعبّر عنها بالمثل العامي: “شد مشومك لا يجيك ما أشوم منّو” (أي: احتفظ بالسيء لديك الآن، فربما يأتيك ما هو أسوأ منه)..

4- الأنظمة الحاكمة تعوّل دائما على منطق كهذا (“شد مشومك لا يجي ما أشوم منو”).. فعلها نظام بورقيبة، وفعلها نظام بن علي دائما.. وهناك شواهد على أن الحكومة الحالية تفعل نفس الشيء..

5- نفس هذا المنطق يحكم أيضا الجماعات والأحزاب السياسية.. مثل حركة النهضة..
توجد شواهد كثيرة على أن الوضع الحالي داخل النهضة لا ينظر إليه بحالة رضى أو تفاؤل من قبل الأعضاء وعدد من القياديين.. والجميع يتراوحون بين عدم الرضى (بنسب متفاوتة)، والتذمر والإحباط.. ولكن الخطاب الغالب حاليا داخل النهضة هو خطاب الخوف من المستقبل من المجهول.. ولذلك يحرص كثيرون على التّمسك بالوضع الرّاهن داخل الحركة، والاكتفاء بمواصلة محاولات الإصلاح الدّاخلي، فالانتخابات قادمة، وهناك مخاطر كثيرة محيقة، تستدعي تأجيل كل المطالب الإصلاحية، وهناك مؤامرات داخلية وخارجية، وسيناريو مصر ليس ببعيد، إلخ… من مبررات الخوف من المستقبل من المجهول وضرورة التضامن من أجل “حماية الجسم” و”حماية المشروع”، إلخ.

6- شخصيا، أقدّر أنه توجد بالفعل مخاطر كبيرة محدقة.. وهو أمر طبيعي جدا بعد الثورات.. وفي كل تجارب الثورات والانتقال الديمقراطي، لا مفر من أن تعيش المجتمعات فترات من الاحتقان والتنازع والتفاوض الاجتماعي الشريف وغير الشريف، والتآمر والاحتراب، إلخ..
ولكن، إلى اي حد يمكن استدعاء هذه المخاطر في أذهان الناس لتبرير قمع أو رفض أو تأجيل أي جهد إصلاحي وتطويري داخل الحركات السياسية والاجتماعية نفسها؟
ولأعطي مثالا من نقدي لحركة النهضة:
- ما دخل مخاطر الوضع السياسي العام من ضرورة تفعيل هيكلة إدارية ناجعة وفعالة؟
- ما دخل مخاطر الوضع السياسي العام من ضرورة وضع رؤية سليمة وأدوات ناجعة للإعلام المركزي أو الشباب أو التدريب والتثقيف أو التأهيل القيادي، أو الدراسات الاستراتيجية، إلخ؟

7- للرد على هذه التساؤلات، يعمد البعض إلى تقديم بعض الحجج من قبيل عدم تفرغ بعض القيادات بسبب تركيزهم على الملفات الحارقة، والوضع المتحرك والمتغير بشكل يومي.. أو من قبيل الحفاظ على التوازنات الداخلية (أنصار الحزب/الحركة، الشباب/الشيوخ، المهجر/الداخل، السياسون/الإداريون)، إلخ..
ولكن مرة أخرى يطرح التساؤل: إلى أي حد يستوجب الحفاظ على التوازنات وتفرغ القيادات للتركيز على الملفات الحارقة، تأجيل كل عمليات الإصلاح بلا استثناء؟
فهناك إصلاحات كثيرة وضرورية، ولا علاقة لها بالتوانات الداخلية.. بل في تحقيقها مصلحة عامة وعاجلة للجميع دون استثناء..
وإلي أي حد يمكن أيضا تأجيل هذه الإصلاحات بحجة عدم تفرغ القيادات؟ طالما أنهم غير متفرغين، أليس هذا دليلا على الحاجة لتوسيع عدد القياديين، وتوزيع المهام توزيعا جيدا، وتفويض بعض المهام لغيرهم، بل وتفويض بعض المهام لجهات خارجية مثل شركات الإصلاح الإداري وشركات الاتصال وغير ذلك مما يحصل في أحزاب العالم المتقدم؟

8- من الواضح جدا، في الحالة التي أتكلم عنها (أي: مقاومة الإصلاح الداخلي في النهضة)، أن “التمسك بالحاضر خوفا من المستقبل المجهول” مقولة تبريرية يستعملها بعض القياديين ممن اصطلح البعض على تسميتهم بـ”الماكينة”، فقط لضمان تحكمّهم في جسم الحزب ومساره.. وهذا الأمر يهدد وضع النهضة، ويجعلها أكثر هشاشة داخليا..

9- في كل الحالات، أعتقد أن المصلحة العامة (للنهضة نفسها، وللمشروع الإسلامي، بل ولتونس أيضا) تقتضي من عقلاء النهضة أن يتعاملوا مع الوضع الداخلي بأكثر جرأة وأكثر إصرار على التعجيل بفرض إجراءات إصلاحية، تؤدي إلى:
- ترميم الثقة الداخلية في صفوف القواعد،
- توفير هيكلة إدارية أكثر نجاعة وأكثر فاعلية
- الفصل بين المستويين السياسي والإداري في الحزب، واعتماد الكفاءة الإدارية أساسا في توزيع المناصب الحزبية..
- دعم التخطيط الاستراتيجي
- إعادة النظر في كل البرامج التثقيفية والتدريبية والتأهيل القيادي.. والاستنجاد بمؤسسات دولية متخصصة يعمل على بناء جيل سياسي وقيادي متميز وقادر على خدمة مشروع الحزب ومشروع الدولة الحديثة..
- الحسم مع الخطابات التبسيطية السائدة في كل المستويات الحزبية والتي تعطل قدرات الحزب على الانطلاق كحزب سياسي عصري، وتشده إلى الخلف..
- إعادة النظر في الجوانب الإجرائية لعملية الشورى الداخلية كي تصبح شورى حقيقية بدل أن تكون مجرد تجمّل وديكور، أو مغالطة..
- توفير أطر أكثر ذكاء وفاعلية لربط الأعضاء بعضهم ببعض، واستعادة الثقة والمصداقية بين الأعضاء فيما بينهم، وبين الأعضاء والقيادات..
- توفير إعلام داخلي سريع وناجع، لا يكتفي بمتابعة صدى الحركة في الإعلام، وعدّ المقالات والتصريحات الإيجابية والمقالات والتصريحات السلبية، وإنما يوفر لهم ورقات تقدير للموقف، والسيناريوهات المحتملة، ونبذة عن النقاشات الدائرة ومبررات الموقف السياسي.. إلخ، مما يمثل ضرورة لتدريب الأعضاء وإعلامهم..

10- أعتقد أن مصير النهضة مرتبط بمدى نشوء خطّ إصلاحي داخلي.. وإلا فسيكون الأسلم هو التمرد والاستقالة.. في كل الحالات: لا مفر من رجّة قوية داخلية للإصلاح..
أشير في النهاية، إلى أن ما ينطبق هنا على النهضة، يصلح أيضا لبقية الأحزاب والجماعات في تونس.. ومن مصلحة الجميع في تونس أن يكون لدينا أحزاب عصريّة وديمقراطيّة وذات هيكليّة إداريّة ناجعة.. وليتنافسوا بعد ذلك على إدارة الشأن العام كما يريدون.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

في ضرورة تجاوز الواقع، ووهم "حتمية النهضة" كإطار وحيد لإسهام الإسلاميين في بناء المشروع الوطني

أرجو أن يأتي يوم قريب يعترف فيه بعض “الأصدقاء” و”الإخوة” (كم أصبحت أتردد في هذه الأوصاف، على رأي ابن الجوزي) في النهضة، بأن صفهم النهضاوي “شادد بالكولّة”، يوشك أن ينهار، ويحصل فيه الانشقاق..

وقد أجّلت هذا الحديث في هذا الموضوع لأسابيع بعد استقالتي، كي لا يتهم كلامي بأنه واقع تحت الضغط النفسي لظروف الاستقالة.. ولكن أعتقد أنه من الضروري أن أنقل بعضا من ملاحظاتي عن تجربتي القصيرة في الانتماء للنهضة.. وسأكتفي بسردها في شكل نقاط مركزة:

1- شواهد كثيرة تشير إلى تصاعد الإرباك الداخلي يوما بعد يوم، وتوسع الاستياء في جميع الصفوف (الصغرى والمتوسطة وحتى القيادية) مما يعتبر انفرادا بالقرار من قبل مجموعة يصطلح على تسميتها بـ”الماكينة”..

2- كثيرون مستقيلون فعليا ولكن بصمت: بعضهم جمّد نشاطه بالكامل.. آخرون جمدوا نشاطهم في الجهويات والمحليات، ولا يحضرون أيا من النشاطات.. آخرون أعلنوا استقالتهم داخليا، ولم يعلنوها.. آخرون أحبطتهم تجربة العمل الداخلي، وخيروا الانسحاب.. آخرون أصبحوا يكتفون بالحضور في المناشط بروح شبه ميتة، فقط لرفع العتب..

3- مجلس الشورى تحول منذ فترة طويلة إلى مجلس “صوري” لا اعتبار حقيقيا له.. يمارس شورى تجميلية ينتج عنها بيانات خشبية، وتنتهي بصمت كامل عما يحصل داخلها من خلافات عميقة.. وقد تكرس هذا الوضع أكثر منذ أسابيع قليلة بإنشاء المكتب التنفيذي “الموسّع”، الذي يضم المكتب التنفيذي وعددا صغيرا من أعضاء محلس الشورى، فوضت له جميع الصلاحيات لاتخاذ القرارات بدون العودة لمجلس الشورى في كل مرة..

4- نفس الشيء يقال عن كتلة النهضة في التأسيسي..

5- شورى غائبة في الجهويات والمحليات.. يكتفي فيها المسئولون باستشارة المركزي وانتظار أوامره وقراراته وتوصياته، ويكتفون فقط بالتنافس على استضافة الشيخ فلان والقيادي فلان.. لجلسة سماع (“غسل دماغ”) و”إقناع” بحكمة القيادة وسلامة اختياراتها وتكالب الجميع عليها وخطورة الوضع وضرورة الثقة في حسن المسك بملف المفاوضات، إلخ.. ويتخلل هذه الجلسات فضفضة قليلة مسموح بها للأعضاء، ينفض بعدها المجلس لتبقى الأمور على حالها.

6- كل الخطوات الضرورية من أجل تحقيق التماسك والتضامن والانسجام الداخلي، ومن أجل الإصلاح والتطوير الهيكلي، يتم تأجيلها مرة تلو الأخرى تحت كل الحجج، وخصوصا التخويف من الوضع السياسي العام: تأجيل الفصل بين الحزب والحركة، وتأجيل إصلاح الهيكلة الداخلية نفس خطاب التخويف وتضخيم المخاطر الذي كان يستعمله نظام بن علي للحفاظ على الأوضاع كما هي..

7- حزب حاولتُ في كثير من المرات إحسان الظن في اعتباره هيكلا مؤسسيا، ولكن كل الشواهد اليومية التي عاينتها داخليا تشير بوضوح لا لبس إلى تحكّم “الشيخ” في كل مفاصله.. فالشيخ له من النفوذ ما يسمح له بإلغاء تصويت وإعادته في مجلس الشورى وقلب نتيجة القرار الجماعي.. والشيخ له من النفوذ ما يسمح بتقديم هذا أو ذاك ومنع هذا أو ذاك من الظهور الإعلامي.. والشيخ تقدم له تقارير شبه يومية عن تحركات بعض القياديين، فيتم على ضوئها استدعاء بعضهم لما يشبه التحقيق.. والشيخ له من النفوذ حين يجد أحد القياديين قد “حاد” قليلا عن “الطريق المرسوم” أن يستميله ويشتري سكوته بـ”منصب” صوري ديكوري قد يضعه في الثلاجة حتى حين..

8- حزب له مكتب شبابي ومكتب للتدريب ومكتب للدراسات ومكتب للإعلام ومكتب للتأهيل القيادي..لم أر لها طيلة سنة ونصف السنة من النشاط، أي أثر ملموس قائم على تخطيط ومنهجية سليمة.. مكتب دراسات لا ينشر دراسات، ومكتب تدريب لا يدرّب، ومكتب تأهيل قيادي لا يؤهل قياديا، ومكتب إعلامي مقصر ومتخبط إعلاميا، ومكتب شبابي يعاني شبابه من غياب الأنشطة والتثقيف والتأطير..

9- حزب لا يقوم على التخطيط والهيكلة والبناء والتدريب والتأطير والحوار الداخلي والشورى، بقدر ما يقوم على منطق “الجماعة الدينية” و”واجب التضامن الديني” و”خدمة المشروع”.. لذك يكثر في منطق لشبابه وكهوله أنهم لا يعملون في النهضة إلا لخدمة “المشروع”..

10- حزب يغلب أعضائه وقيادته تغليب منطق “التواصي بالصبر” على منطق “التواصي بالحق”، بدل أن يكون التواصي بالحق والتواصي بالصبر أمرين متلازمين بنفس الترتيب السليم الذي يجعل الحق مقدّما على الصبر..

11- حزب تغلّب فيه نمط قيادي لديه ملكة عجيبة في امتصاص النقد، فلا يؤثر فيه ولا في أساليب عمله، بحيث يمكن أن نقده صباح مساء نقدا إيجابيا يظهر له مواطن الخطأ الواضحة، فيسمع ثم ينصرف لنفس الممارسة بدون أدنى شعور ظاهري بالحرج، مع تعمّد تجاهل هؤلاء الناقدين مستقبلا كي لا يؤثروا على توازنه النفسي ومنطقة رخائه (sa zone de confort).

12- حزب تغلّب فيه نمط قيادي يتعامل مع النقد الداخلي مثلما يتعامل مع النقد الخارجي: التجاهل ورفض الاعتراف والمناورة والامتصاص والتبرير، وادعاء الاستعداد للحوار في بعض الأطر، واستدعاء حجج المخاطر والمؤامرة وضرورة الصبر في أطر أخرى..

13- حزب لا يحقق تماسكه الداخلي الظاهر منطق عقلاني، بقدر ما يخدمه منطق عاطفي عميق كرسته جملة من المقولات المنطوقة وغير المنطوقة التي مفادها: أن النهضة هي المشروع الإسلامي، وأن مشروع النهضة هو مشروع حكم الإسلام والحياة بالإسلام، وأن النهضة هي الصواب، وأن أي خرج عنها هو تهديد لمستقبل الإسلام في البلاد، إلخ. من المقولات العاطفية الهلامية المستخدمة من قبل “الماكينة” بدون رؤية أو تصور أو هيكلة حقيقية ومتقنة تشعر الأعضاء بأنها مقولات مستندة إلى واقع سليم..

14- حزب يوحّد بين أعضاءه خطاب الهوية وشعور الانتماء الديني، أكثر مما يجمع بينهم برنامج سياسي واضح وعملي.. لذلك تجد في صفوفه أعضاء وقياديين يصنّف بعضهم سياسيا في خانة المحافظين، وآخرون في خانة الليبراليين، وآخرون في خانة الإصلاحيين، وآخرون في خانة اليسار الاجتماعي، إلخ.. وبقيت “الماكينة” تترك للجميع فرصة لإعطاء صورة جميلة عن “الثراء والتنوع والجو الديموقراطي الداخلي” للنهضة، ولكن فقط بالقدر الذي يخدم الصورة الجميلة.. في حين يتم إفراغ هذا التنوع من أي قيمة وتأثير داخلي حقيقي حين يتعلق الأمر بالملفات السياسية الحقيقية (الحكومة، الترويكا، المفاوضات، التحالفات، قياس الأداء، الإصلاح الداخلي، إلخ)..

15- حزب استطاع نمط قيادي متغلب بداخله الإيحاء لشريحة وساعة بنشر وتبني مقولة أن “أي خارج أو مستقيل من النهضة لا مستقبل له سياسيا” ولن ينجح أي حزب سياسي يخرج عن النهضة.. وهي مقولة خطيرة ومهينة مستبطنة لكثير من الأخطاء:

- أحدها: لأن مستقبل المستقيلين بيد الله أولا، ثم بأيديهم هم أنفسهم وأيدي الشعب.. وليست النهضة هي الحفيظة على مستقبل أعضائها أو قياداتها.. ولا النهضة قادرة حتى على التنبؤ بمصيرها الذاتي، باعتبار أن الأحزاب يعتريها ويصيبها ما يصيب الأمم من مراحل ولادة ونضج وصعود وازدهار واستقرار وجمود ونزول وانشقاق وانهيار واندثار وولادة جديدة، إلخ.. وتلك الأيام نداولها بين الناس.. ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا..

- و ثانيها: لأن هذا المنطق يستبطن احتقارا لكفاءات المستقيلين وتشكيكا في خلفيات استقالاتهم، ولا يرى لهم أي قيمة قبل دخولهم للنهضة، أو بعد خروجهم منها.. وهو منطق وجودي قائم على وثوقية وغرور مفرطين..

خلاصة:

لهذا كله، ولتفاصيل أخرى قد أذكرها في مرات لاحقة، أشير هنا لبعض الخلاصات:

1- توجد خلافات عميقة داخل النهضة، و”الشيخ” يتحمل المسئولية الكبرى في هذا الوضع..

2- بات من الضروري والمفيد تحرير المبادرات الداخلية وتجاوز “العقبة النفسية” لظهور هذه الخلافات الداخلية في العلن.

3- بات من الضروري إحداث رجة داخلية من خلال استقالة وانشقاق بعض النهضاويين وبعض القياديين في النهضة، باعتبار أنه لم يعد مقبولا التعامل مع الاحتقان الداخلي بأسلوب النعامة..

4- خروج حزب سياسي جديد من رحم النهضة سيحدث ديناميكية جديدة في دائرة الإسلاميين وهذا هو المطلوب حاليا..

ختاما:

لا أقول هذا الكلام من باب التهيئة لحراك قائم أعمل ضمنه. فلا علم لي حاليا بوجود أي مبادرة للانشقاق أو لتأسيس أحزاب من رحم النهضة.. ولا أشعر في نفسي برغبة كبيرة للعودة للعمل الحزبي..

ولكن، إن حصل وتأسّس حراك سياسي جديد، واقتنعت برؤيته وخطابه وجدية مشروعه، فربما تعود لي بعض اللذة في العمل الحزبي والسياسي، والتي نشأت لدي سريعا بعد الثورة، وتلاشت سريعا..

الهوية المتعددة الأبعاد

* ما هي الهوية؟
تعرّف الهوية بأنها “خاصية مميزة يمتلكها فرد، أو يشترك في امتلاكها جميع أفراد مجموعة مّا أو شريحة اجتماعية مّا” (1).
وتتميز هوية الفرد بسمات مختلفة، لكل منها مكانتها وأهميتها.
وبعض الدراسات الاجتماعية تعتبر كل سمة نوعا خاصا من أنواع الهوية. وبالتالي فالعبارتان التاليتان تؤديان نفس المعنى: “الهوية لها سمات عديدة” أو: “توجد عدة أنواع من الهوية”.
فالعرق واللون، والقومية، والقبيلة، ومكان الولادة، والمواطنة، والمعتقدات، كل هذه يمكن أن يطلق عليها لفظ الهوية، فيقال: هوية عرقية، وهوية دينية، وهوية قومية، إلخ.
ومن أنواع الهويات المعتمدة:
- الهوية الجنسية: ذكر/أنثى، رجل/امرأة
- الهوية العمرية: طفل/مراهق/كهل/شيخ
- الطبقة الاقتصادية والاجتماعية: فقيرة/متوسطة/ثرية
- القدرات والإعاقات: سليم البنية/معاق…
- الهوية الثقافية: عربي/فارسي/تركي…
- الهوية الإثنية: مغربي من أصل أمازيغي/كندي من أصل تونسي…
- الهوية العرقية: أسود/أبيض/آسياوي…
- المنطقة: نجد/الشام/الصعيد/الريف/الصحراء/…
- إلخ.
* الهوية كمفهوم اجتماعي:
ربما يعود الفضل لعلماء الأنثروبولوجيا في بيان أن بعض سمات الهوية لا تصبح ذات قيمة إلا في سياق محدد أو تحت ظرف خاص تأخذ فيه معناها الكامل، حين تندرج ضمن علاقة اجتماعية أو “تفاوض اجتماعي” تتخذ فيه هذه السمات تارة كتعبيرات رمزية أو حجج استدلالية، وتارة أخرى كعلامات لرسم الحدود والفوارق لتبرير الانتماء أو الاستبعاد (2).
وسمات الهوية هي بطبيعتها متناقضة بمعنى أنه إذا كان لدى فرد مّا سمة معينة، فسنجد دائما فردا آخر لا يملك هذه السمة، أو على الأقل ستكون موجودة عنده ولكن بدرجة متفاوتة (3). فالهوية لا تأخذ معناها إلا من خلال الحياة الاجتماعية، وامتلاكُ سمة من السمات المميزة يفترض وجود علاقة (يمكن مشاهدتها أو تخيلها) مع من يحملون نفس هذه السمة. كما يفترض أيضا تولد شعور بالانتماء أو التقارب (وفي نفس الوقت شعورا مضادا بالابتعاد والتنافر) على جهتي خط حدودي متحرك يتم رسمه حسب الظروف. وقد يتمثل الشعور المتولد في صورة إحساس بالتضامن أو بوجود مصلحة مشتركة، أو شعور بالرضى تجاه من يحملون نفس السمات.
بعبارة أخرى، يمكن القول: إن سمة من السمات تصبح قوية حين يتم الالتزام بها واستحضارها باستمرار، وضعيفة حين تتقلص لتصبح مجرد “فكرة”، كأن تصبح مناصرة نادي كرة القدم المحلي، لدى بعض الشباب، سمة قوية من سمات الهوية حين يتولد عنها شعور بالانتماء والتضامن يرسم حدودا وفوارق، وتتقلص في حضوره رابطة “المواطنة” لتصبح مجرد فكرة. أو كأن يشعر بعض التلاميذ بالانتماء إلى مدرستهم الإعدادية (نتيجة إحساس بالرضى) بدرجة أقوى من انتمائهم إلى الأسرة أو إلى الطبقة الاجتماعية (نتيجة إحساس بعدم الرضى).
* الهوية متعددة الأبعاد:
ذكرنا في ما سبق أن لكل فردٍ هويةً تتكون من سمات متعددة. ونضيف هنا القول بأن لكل فرد أيضا “مشاعر انتماء” مختلفة: تجاه أسرته، ودائرة أصدقائه، وقبيلته، وقوميته، ومكان ولادته، ومكان إقامته، ودينه، والمؤسسة التعليمية التي درس بها أو يدرس بها، والشركة التي يعمل بها، إلى غير ذلك.
ولكن ماذا نعرف تحديدا عن العلاقات والتفاعلات بين مختلف السمات المميزة للهوية ومشاعر الانتماء؟
شكلت دراسة الهوية الذاتية للفرد، من خلال قياس بعض سمات الهوية كالجنس والشريحة العمرية والعرق والوظيفة، محور البحوث الاجتماعية لعدة عقود. وقد أدت هذه البحوث المعمقة في تخصصات مختلفة لظهور عدد من القواعد التوصيفية والتحليلية. فموضوع الانتماء القومي والانتماء العرقي، مثلا، خضع للبحث من خلال دراسة المتغيرات النفسية من قبل علماء النفس، ومن خلال المتغيرات السياسية من قبل علماء السياسة، ومن خلال المتغيرات الاقتصادية من قبل علماء الاقتصاد.
من جهة أخرى، تنزع أغلب الدراسات حول الهوية نحو الاهتمام بسمة واحدة من سمات الهوية (كالجنس، أو العرق، أو اللغة، أو الدين، إلخ)، واعتبار السمات مستقلة بعضها عن بعض، ثم محاولة دراسة تلك السمة في الجماعات أو المؤسسات الاجتماعية، ومن خلال سياقات اجتماعية مختلفة.
في مقابل ذلك، يلاحظ قلة الدراسات التي اهتمت بتحليل العلاقات والتفاعلات المحتملة بين مختلف السمات. وحتى سنوات قليلة ماضية، لم تكن التقاطعات المحتملة بين سمات الهوية محل بحث معمق في الدراسات الاجتماعية (4). فنحن نعرف، مثلا، أن الانتماء لمجموعة أو شريحة مّا ينجر عنه بعض الفوائد والسلبيات الهامة، سواء كان ذلك على المستوى الملموس والظاهر، أو على المستوى النفسي غير المرئي. ولكن هل يوجد فرق في قيمة الانتماء إلى نفس الشريحة العمرية، والانتماء إلى نفس الطبقة الاجتماعية؟ هل يشعر الفرد بالتضامن مع أهل بلدته الأصلية أكثر، أو مع الأشخاص من نفس جنسه؟ وهل يتضامن الشاب أكثر مع قرينه في العمر أو مع أقاربه؟…
فمما لا شك فيه أن بإمكان أي سمة من سمات الهوية أن تؤثر لوحدها في حياة الفرد، في أي وقت ما، غير أننا قد نحتاج أيضا لمزيد الاهتمام بتفاعل السمات في ما بينها في سياق اجتماعي أو ثقافي محدد، بالرغم من أننا لا نملك في الوقت الراهن سوى القليل من المعلومات عن تأثير هذه التقاطعات وآثارها على الأفراد والجماعات.
* الهوية الذاتية، والهوية الاجتماعية المسندة
يميز الباحثون الاجتماعيون في دراستهم لظاهرة الهوية بين “الهوية الذاتية” و”الهوية الاجتماعية” أو “المُسْنَدَة” (5):
ويقصد بالهوية “الذاتية” ما يحمله الفرد من تصور عن ذاته، أي كيف يرى نفسه، وكيف يعرّفها. وهي هوية غير مستقرة، وإنما تتغير وتتطور عبر مراحل مختلفة من النمو المعرفي المتأثرة بعاملين: عامل النضج الذاتي، وعامل البيئة الاجتماعية. وتتولد من خلال هذه التراكمات ما يسمّى: “الشخصية”، وهي عنصر من عناصر الهوية تتيح للفرد أن يتموقع في الإطار الاجتماعي. والشخصية تمثل جوهر الهوية التي تنشأ على أساسها مختلف الأبعاد الذاتية للفرد: كالثقة بالنفس والصورة الذاتية، على سبيل المثال.
ويمثل تطوير هوية محددة لفرد ما عملية ذاتية داخلية تسمح له بنحت مكان خاص في العالم. فالهوية الذاتية هي تلك التي يتخذها الفرد لنفسه ويسعى لبنائها، منذ مرحلة الطفولة وحتى مرحلة الكهولة. وتتأثر هذه العملية بالسياق الاجتماعي.
وأما “الهوية الاجتماعية” أو “الهوية المسندة” فهي الهوية التي يبنيها الآخرون للفرد، من خلال ما يضفون على شخصيته من خصائص وسمات وملاحظات.
فبمرور الزمن، يكتسب الفرد مكانة ودورا في الفضاء الاجتماعي. ومن خلال التواصل مع محيطه تتولد لدى الآخرين انطباعاتٌ عن الفرد وشخصيته، تتحول محصلتها تدريجيا إلى تكوين “هوية اجتماعية” ناتجة عن علاقات التأثر والتأثير وعن جملة التعريفات الاجتماعية التي يلصقها الآخرون بالفرد. وبما أن انطباع الآخرين عن فرد ما قد يختلف من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى، فيمكن الحديث عن وجود “هويات اجتماعية متعددة لنفس الفرد”. وبعض هذه الهويات لا تعبّر بالضرورة عن عنصر قار ومميز لدى الفرد، بل يحصل في بعض الأحيان أن تسند للفرد هويات وأوصاف قد لا تنطبق عليه جزئيا أو كليا، وذلك بهدف تشويه صورته لدى الآخرين.
إذن، يمثل المحيط الاجتماعي والأحداث الاجتماعية التي يعيشها الفرد عاملا هاما في بناء هويته الذاتية وهويته الاجتماعية. ويبين “الرسم 1″ العلاقة بين هذين الجانبين من هوية الفرد، وأن طبيعة التغييرات التي تحصل على هوية الفرد ودرجة أهميتها تختلف من شخص لآخر، ومن سياق اجتماعي لآخر (6).
* هوية الفرد تتكيف مع تأثيرات محيطه الاجتماعي:
تتكيف هوية الفرد مع تأثيرات محيطه الاجتماعي إما بشكل واع أو بشكل تراكمي غير واع، من خلال التجارب.
ولنأخذ مثلا على ذلك.. فالهوية العرقية واللغوية لفرد تونسي هاجر إلى كندا، يمكن أن تحدد طبيعة علاقاته وقوة تواصله مع أفراد جاليته التونسية أو العربية أو الإسلامية في المدينة التي يستقر بها لفترة. غير أن هذا الفرد تتكون لديه هوية أخرى موازية قد لا يختارها بذاته، وإنما تكون ردة فعل على السياق الذي يفرضه عليه، مثلا، أن يعمل في مؤسسة كندية مع آخرين من أعراق وثقافات وأديان أخرى، أو أن يجاورهم في السكنى، إلى غير ذلك.
وكذلك الشأن، مثلا، بالنسبة لفتاة من الريف، تنتقل للحياة بإحدى المدن للدراسة الجامعية، فتتغير نظرتها لذاتها تأثرا بنظرة الآخرين لها.
ويشير هالمز (Helms) إلى أن هوية الفرد تتشكل من خلال عوامل مختلفة، مثل: الجماعة التي ينتمي إليها، والمكانة الاجتماعية-السياسية لهذه الجماعة في المجتمع، ودرجة اندماج الفرد في الجماعة (7).
فالهوية محصلة لمسيرة الفرد المعرفية والوجدانية والسلوكية. وعبر تفاعله الاجتماعي المستمر، يتراوح تكيّف الفرد بين قبول الحالة الاجتماعية المحيطة أو رفضها. فإذا قبلها انطبع بعضها على هويته الذاتية، وإذا رفضها كان ذلك علامة على التزامه بهويته أو الدفاع عنها، وبالتالي انطبع رفض الحالة الاجتماعية في هويته، مما يعني في كلتا الحالتين تأثره بالمحيط الاجتماعي (انظر “الرسم 2″ و”الرسم 3″).
ويبين “الرسم 4″ أثر العوامل الاجتماعية والثقافية في تشكل هوية الفرد، من خلال النموذج الذي اقترحه أدلر (Adler) لبيان تأثير الثقافة على السلوك، انطلاقا من الثقافة التي ينتج عنها مجموعة قيم، تؤدي إلى اتخاذ مواقف، تصبح في ما بعد سلوكيات (8).

ونشير هنا إلى أن تعريف “تصور الذات”، باعتباره فكرة أو صورة مركبة يصوغ من خلالها الفرد هويتَه النفسية والاجتماعية فتؤثر بدورها على سلوكه، يشير لفكرتين هامتين: الأولى أن هذا التصور عمل شخصي يعبر به الفرد عن هويته الذاتية، فهو (هوية متخيلة) يختارها الفرد لنفسه، والثانية: أنها تصبح من بعد ذلك، ذات طابع اجتماعي بما أنها تؤثر بدورها في سلوكه الاجتماعي.
وقد أشار جي باجوا (Guy Bajoit) إلى ذلك حين اعتبر أن الفرد يحاول بناء أو صياغة هويته الذاتية من خلال علاقته بالآخرين، ولذلك فالهوية الذاتية تعتبر مفهوما متحركا وقتيا، وهي عبارة عن ورشة بناء لا تتوقف تتجاذبها ثلاثة أقطاب (انظر “الرسم 5″) (9):
- الهوية الراهنة: التي تمثل واقع الفرد الراهن أو السابق،
- الهوية المسندة: والتي يعتقد أن الآخرين يرغبون في رؤيته من خلالها
- الهوية المنشودة: التي يرغب في أن تصبح هويته.


الهوامش:
1- Rummens, J. “Canadian Identities: An Interdisciplinary Overview of Canadian Research on Identity”, paper presented to Canadian Heritage (Multiculturalism), Ottawa. 2000
2- F.-P. Gingras. Quelques identités qui comptent : la hiérarchie des traits identitaires chez des lycéens de Provence et ailleurs. La revue plurielle de science politique, vol.2: http://www.la-science-politique.com/revue/revue2/papier7/gingras.pdf
3- F.P. Gingras, “Quelques identités qui comptent: la hiérarchie des traits identitaires chez des lycéens de Provence et ailleurs”. La revue plurielle des sciences politiques, vol.2
4- Barot, R., H. Bradley and S. Fenton (eds) Ethnicity, Gender and Social Change, London, Macmillan, in Frideres, J.S. Les immigrants, l’intégration et l’intersection des identities p.27
5- Rummens, J. “Canadian Identities: An Interdisciplinary Overview of Canadian Research on Identity”, paper presented to Canadian Heritage (Multiculturalism), Ottawa. 2000
6- Source: Frideres, J.S. “Immigrants, Integration and the Intersection of Identities”. Seminar on “Intersections of Diversity”, Metropolis Canada, Niagara Falls, Ontario, 2003
7- Helms, J. “An Update of Helms’ White and People of Colour Racial Identity Models”, in Ponterotto, J., J. Casas, L. Suzuki and C. Alexander in Handbook of Multicultural Counseling, 181-198, Thousand Oaks, California, Sage Publications. 1995
8- Adler, N.J., (1994), Comportement organisationnel : une approche multiculturelle, Ottawa : Éditions Reynald Goulet inc
9- Bajoit G. (1999), « Notes sur la construction de l’identité personnelle », Recherches sociologiques, 30, 2, pp. 69-84