* ما هي الهوية؟
تعرّف الهوية بأنها “خاصية مميزة يمتلكها فرد، أو يشترك في امتلاكها جميع أفراد مجموعة مّا أو شريحة اجتماعية مّا” (1).
وتتميز هوية الفرد بسمات مختلفة، لكل منها مكانتها وأهميتها.
وبعض الدراسات الاجتماعية تعتبر كل سمة نوعا خاصا من أنواع الهوية. وبالتالي فالعبارتان التاليتان تؤديان نفس المعنى: “الهوية لها سمات عديدة” أو: “توجد عدة أنواع من الهوية”.
فالعرق واللون، والقومية، والقبيلة، ومكان الولادة، والمواطنة، والمعتقدات، كل هذه يمكن أن يطلق عليها لفظ الهوية، فيقال: هوية عرقية، وهوية دينية، وهوية قومية، إلخ.
ومن أنواع الهويات المعتمدة:
- الهوية الجنسية: ذكر/أنثى، رجل/امرأة
- الهوية العمرية: طفل/مراهق/كهل/شيخ
- الطبقة الاقتصادية والاجتماعية: فقيرة/متوسطة/ثرية
- القدرات والإعاقات: سليم البنية/معاق…
- الهوية الثقافية: عربي/فارسي/تركي…
- الهوية الإثنية: مغربي من أصل أمازيغي/كندي من أصل تونسي…
- الهوية العرقية: أسود/أبيض/آسياوي…
- المنطقة: نجد/الشام/الصعيد/الريف/الصحراء/…
- إلخ.
* الهوية كمفهوم اجتماعي:
ربما يعود الفضل لعلماء الأنثروبولوجيا في بيان أن بعض سمات الهوية لا تصبح ذات قيمة إلا في سياق محدد أو تحت ظرف خاص تأخذ فيه معناها الكامل، حين تندرج ضمن علاقة اجتماعية أو “تفاوض اجتماعي” تتخذ فيه هذه السمات تارة كتعبيرات رمزية أو حجج استدلالية، وتارة أخرى كعلامات لرسم الحدود والفوارق لتبرير الانتماء أو الاستبعاد (2).
وسمات الهوية هي بطبيعتها متناقضة بمعنى أنه إذا كان لدى فرد مّا سمة معينة، فسنجد دائما فردا آخر لا يملك هذه السمة، أو على الأقل ستكون موجودة عنده ولكن بدرجة متفاوتة (3). فالهوية لا تأخذ معناها إلا من خلال الحياة الاجتماعية، وامتلاكُ سمة من السمات المميزة يفترض وجود علاقة (يمكن مشاهدتها أو تخيلها) مع من يحملون نفس هذه السمة. كما يفترض أيضا تولد شعور بالانتماء أو التقارب (وفي نفس الوقت شعورا مضادا بالابتعاد والتنافر) على جهتي خط حدودي متحرك يتم رسمه حسب الظروف. وقد يتمثل الشعور المتولد في صورة إحساس بالتضامن أو بوجود مصلحة مشتركة، أو شعور بالرضى تجاه من يحملون نفس السمات.
بعبارة أخرى، يمكن القول: إن سمة من السمات تصبح قوية حين يتم الالتزام بها واستحضارها باستمرار، وضعيفة حين تتقلص لتصبح مجرد “فكرة”، كأن تصبح مناصرة نادي كرة القدم المحلي، لدى بعض الشباب، سمة قوية من سمات الهوية حين يتولد عنها شعور بالانتماء والتضامن يرسم حدودا وفوارق، وتتقلص في حضوره رابطة “المواطنة” لتصبح مجرد فكرة. أو كأن يشعر بعض التلاميذ بالانتماء إلى مدرستهم الإعدادية (نتيجة إحساس بالرضى) بدرجة أقوى من انتمائهم إلى الأسرة أو إلى الطبقة الاجتماعية (نتيجة إحساس بعدم الرضى).
* الهوية متعددة الأبعاد:
ذكرنا في ما سبق أن لكل فردٍ هويةً تتكون من سمات متعددة. ونضيف هنا القول بأن لكل فرد أيضا “مشاعر انتماء” مختلفة: تجاه أسرته، ودائرة أصدقائه، وقبيلته، وقوميته، ومكان ولادته، ومكان إقامته، ودينه، والمؤسسة التعليمية التي درس بها أو يدرس بها، والشركة التي يعمل بها، إلى غير ذلك.
ولكن ماذا نعرف تحديدا عن العلاقات والتفاعلات بين مختلف السمات المميزة للهوية ومشاعر الانتماء؟
شكلت دراسة الهوية الذاتية للفرد، من خلال قياس بعض سمات الهوية كالجنس والشريحة العمرية والعرق والوظيفة، محور البحوث الاجتماعية لعدة عقود. وقد أدت هذه البحوث المعمقة في تخصصات مختلفة لظهور عدد من القواعد التوصيفية والتحليلية. فموضوع الانتماء القومي والانتماء العرقي، مثلا، خضع للبحث من خلال دراسة المتغيرات النفسية من قبل علماء النفس، ومن خلال المتغيرات السياسية من قبل علماء السياسة، ومن خلال المتغيرات الاقتصادية من قبل علماء الاقتصاد.
من جهة أخرى، تنزع أغلب الدراسات حول الهوية نحو الاهتمام بسمة واحدة من سمات الهوية (كالجنس، أو العرق، أو اللغة، أو الدين، إلخ)، واعتبار السمات مستقلة بعضها عن بعض، ثم محاولة دراسة تلك السمة في الجماعات أو المؤسسات الاجتماعية، ومن خلال سياقات اجتماعية مختلفة.
في مقابل ذلك، يلاحظ قلة الدراسات التي اهتمت بتحليل العلاقات والتفاعلات المحتملة بين مختلف السمات. وحتى سنوات قليلة ماضية، لم تكن التقاطعات المحتملة بين سمات الهوية محل بحث معمق في الدراسات الاجتماعية (4). فنحن نعرف، مثلا، أن الانتماء لمجموعة أو شريحة مّا ينجر عنه بعض الفوائد والسلبيات الهامة، سواء كان ذلك على المستوى الملموس والظاهر، أو على المستوى النفسي غير المرئي. ولكن هل يوجد فرق في قيمة الانتماء إلى نفس الشريحة العمرية، والانتماء إلى نفس الطبقة الاجتماعية؟ هل يشعر الفرد بالتضامن مع أهل بلدته الأصلية أكثر، أو مع الأشخاص من نفس جنسه؟ وهل يتضامن الشاب أكثر مع قرينه في العمر أو مع أقاربه؟…
فمما لا شك فيه أن بإمكان أي سمة من سمات الهوية أن تؤثر لوحدها في حياة الفرد، في أي وقت ما، غير أننا قد نحتاج أيضا لمزيد الاهتمام بتفاعل السمات في ما بينها في سياق اجتماعي أو ثقافي محدد، بالرغم من أننا لا نملك في الوقت الراهن سوى القليل من المعلومات عن تأثير هذه التقاطعات وآثارها على الأفراد والجماعات.
* الهوية الذاتية، والهوية الاجتماعية المسندة
يميز الباحثون الاجتماعيون في دراستهم لظاهرة الهوية بين “الهوية الذاتية” و”الهوية الاجتماعية” أو “المُسْنَدَة” (5):
ويقصد بالهوية “الذاتية” ما يحمله الفرد من تصور عن ذاته، أي كيف يرى نفسه، وكيف يعرّفها. وهي هوية غير مستقرة، وإنما تتغير وتتطور عبر مراحل مختلفة من النمو المعرفي المتأثرة بعاملين: عامل النضج الذاتي، وعامل البيئة الاجتماعية. وتتولد من خلال هذه التراكمات ما يسمّى: “الشخصية”، وهي عنصر من عناصر الهوية تتيح للفرد أن يتموقع في الإطار الاجتماعي. والشخصية تمثل جوهر الهوية التي تنشأ على أساسها مختلف الأبعاد الذاتية للفرد: كالثقة بالنفس والصورة الذاتية، على سبيل المثال.
ويمثل تطوير هوية محددة لفرد ما عملية ذاتية داخلية تسمح له بنحت مكان خاص في العالم. فالهوية الذاتية هي تلك التي يتخذها الفرد لنفسه ويسعى لبنائها، منذ مرحلة الطفولة وحتى مرحلة الكهولة. وتتأثر هذه العملية بالسياق الاجتماعي.
وأما “الهوية الاجتماعية” أو “الهوية المسندة” فهي الهوية التي يبنيها الآخرون للفرد، من خلال ما يضفون على شخصيته من خصائص وسمات وملاحظات.
فبمرور الزمن، يكتسب الفرد مكانة ودورا في الفضاء الاجتماعي. ومن خلال التواصل مع محيطه تتولد لدى الآخرين انطباعاتٌ عن الفرد وشخصيته، تتحول محصلتها تدريجيا إلى تكوين “هوية اجتماعية” ناتجة عن علاقات التأثر والتأثير وعن جملة التعريفات الاجتماعية التي يلصقها الآخرون بالفرد. وبما أن انطباع الآخرين عن فرد ما قد يختلف من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى، فيمكن الحديث عن وجود “هويات اجتماعية متعددة لنفس الفرد”. وبعض هذه الهويات لا تعبّر بالضرورة عن عنصر قار ومميز لدى الفرد، بل يحصل في بعض الأحيان أن تسند للفرد هويات وأوصاف قد لا تنطبق عليه جزئيا أو كليا، وذلك بهدف تشويه صورته لدى الآخرين.
إذن، يمثل المحيط الاجتماعي والأحداث الاجتماعية التي يعيشها الفرد عاملا هاما في بناء هويته الذاتية وهويته الاجتماعية. ويبين “الرسم 1″ العلاقة بين هذين الجانبين من هوية الفرد، وأن طبيعة التغييرات التي تحصل على هوية الفرد ودرجة أهميتها تختلف من شخص لآخر، ومن سياق اجتماعي لآخر (6).
* هوية الفرد تتكيف مع تأثيرات محيطه الاجتماعي:
تتكيف هوية الفرد مع تأثيرات محيطه الاجتماعي إما بشكل واع أو بشكل تراكمي غير واع، من خلال التجارب.
ولنأخذ مثلا على ذلك.. فالهوية العرقية واللغوية لفرد تونسي هاجر إلى كندا، يمكن أن تحدد طبيعة علاقاته وقوة تواصله مع أفراد جاليته التونسية أو العربية أو الإسلامية في المدينة التي يستقر بها لفترة. غير أن هذا الفرد تتكون لديه هوية أخرى موازية قد لا يختارها بذاته، وإنما تكون ردة فعل على السياق الذي يفرضه عليه، مثلا، أن يعمل في مؤسسة كندية مع آخرين من أعراق وثقافات وأديان أخرى، أو أن يجاورهم في السكنى، إلى غير ذلك.
وكذلك الشأن، مثلا، بالنسبة لفتاة من الريف، تنتقل للحياة بإحدى المدن للدراسة الجامعية، فتتغير نظرتها لذاتها تأثرا بنظرة الآخرين لها.
ويشير هالمز (Helms) إلى أن هوية الفرد تتشكل من خلال عوامل مختلفة، مثل: الجماعة التي ينتمي إليها، والمكانة الاجتماعية-السياسية لهذه الجماعة في المجتمع، ودرجة اندماج الفرد في الجماعة (7).
فالهوية محصلة لمسيرة الفرد المعرفية والوجدانية والسلوكية. وعبر تفاعله الاجتماعي المستمر، يتراوح تكيّف الفرد بين قبول الحالة الاجتماعية المحيطة أو رفضها. فإذا قبلها انطبع بعضها على هويته الذاتية، وإذا رفضها كان ذلك علامة على التزامه بهويته أو الدفاع عنها، وبالتالي انطبع رفض الحالة الاجتماعية في هويته، مما يعني في كلتا الحالتين تأثره بالمحيط الاجتماعي (انظر “الرسم 2″ و”الرسم 3″).
ويبين “الرسم 4″ أثر العوامل الاجتماعية والثقافية في تشكل هوية الفرد، من خلال النموذج الذي اقترحه أدلر (Adler) لبيان تأثير الثقافة على السلوك، انطلاقا من الثقافة التي ينتج عنها مجموعة قيم، تؤدي إلى اتخاذ مواقف، تصبح في ما بعد سلوكيات (8).
ونشير هنا إلى أن تعريف “تصور الذات”، باعتباره فكرة أو صورة مركبة يصوغ من خلالها الفرد هويتَه النفسية والاجتماعية فتؤثر بدورها على سلوكه، يشير لفكرتين هامتين: الأولى أن هذا التصور عمل شخصي يعبر به الفرد عن هويته الذاتية، فهو (هوية متخيلة) يختارها الفرد لنفسه، والثانية: أنها تصبح من بعد ذلك، ذات طابع اجتماعي بما أنها تؤثر بدورها في سلوكه الاجتماعي.
وقد أشار جي باجوا (Guy Bajoit) إلى ذلك حين اعتبر أن الفرد يحاول بناء أو صياغة هويته الذاتية من خلال علاقته بالآخرين، ولذلك فالهوية الذاتية تعتبر مفهوما متحركا وقتيا، وهي عبارة عن ورشة بناء لا تتوقف تتجاذبها ثلاثة أقطاب (انظر “الرسم 5″) (9):
- الهوية الراهنة: التي تمثل واقع الفرد الراهن أو السابق،
- الهوية المسندة: والتي يعتقد أن الآخرين يرغبون في رؤيته من خلالها
- الهوية المنشودة: التي يرغب في أن تصبح هويته.
الهوامش:
1- Rummens, J. “Canadian Identities: An Interdisciplinary Overview of Canadian Research on Identity”, paper presented to Canadian Heritage (Multiculturalism), Ottawa. 2000
2- F.-P. Gingras. Quelques identités qui comptent : la hiérarchie des traits identitaires chez des lycéens de Provence et ailleurs. La revue plurielle de science politique, vol.2: http://www.la-science-politique.com/revue/revue2/papier7/gingras.pdf
3- F.P. Gingras, “Quelques identités qui comptent: la hiérarchie des traits identitaires chez des lycéens de Provence et ailleurs”. La revue plurielle des sciences politiques, vol.2
4- Barot, R., H. Bradley and S. Fenton (eds) Ethnicity, Gender and Social Change, London, Macmillan, in Frideres, J.S. Les immigrants, l’intégration et l’intersection des identities p.27
5- Rummens, J. “Canadian Identities: An Interdisciplinary Overview of Canadian Research on Identity”, paper presented to Canadian Heritage (Multiculturalism), Ottawa. 2000
6- Source: Frideres, J.S. “Immigrants, Integration and the Intersection of Identities”. Seminar on “Intersections of Diversity”, Metropolis Canada, Niagara Falls, Ontario, 2003
7- Helms, J. “An Update of Helms’ White and People of Colour Racial Identity Models”, in Ponterotto, J., J. Casas, L. Suzuki and C. Alexander in Handbook of Multicultural Counseling, 181-198, Thousand Oaks, California, Sage Publications. 1995
8- Adler, N.J., (1994), Comportement organisationnel : une approche multiculturelle, Ottawa : Éditions Reynald Goulet inc
9- Bajoit G. (1999), « Notes sur la construction de l’identité personnelle », Recherches sociologiques, 30, 2, pp. 69-84