2013/12/12

الإصلاح الدّاخلي أو تبرير أخطاء الحاضر باعتماد فزّاعة المستقبل المجهول

1- الخوف من المستقبل يدفع الناس إلى التمسك بالحاضر.. والأمل في مستقبل أفضل، يدفعهم للتغيير.. وما يحكم نزعة الشعوب والجماعات نحو هذا أو ذاك هو درجة عدم الرضى:
- فإذا حصل عدم رضى عن الواقع، يميل الناس للتمسك بالحاضر مع محاولة إصلاحه بالتدرج..
- وإذا تعمق الشعور بعدم الرضى أكثر، بدأوا بالتذمر والتعبير عن الرغبة في التغيير..
- وإذا تعمق تذمرهم أكثر ووصلوا لحالة من الإحباط، يميلون للتغيير الجذري..

2- انتقال الأجسام الاجتماعية الكبيرة لحالة التذمر والإحباط ليس عملية سهلة.. وإنما تحتاج لتراكمات هائلة.. ولذلك غالبا ما يلجأ الناس إلى تغليب التمسك بالحاضر خوفا من المجهول.. ولذلك أيضا، لا تحصل الثورات أو التغييرات الاجتماعية الهائلة إلا مرة في كل 100 سنة أو 200 سنة..

3- فكرة التمسك بالحاضر خوفا من المجهول فكرة متكرسة في مختلف الثقافات الشعبية.. وفي وعينا الشعبي التونسي يعبّر عنها بالمثل العامي: “شد مشومك لا يجيك ما أشوم منّو” (أي: احتفظ بالسيء لديك الآن، فربما يأتيك ما هو أسوأ منه)..

4- الأنظمة الحاكمة تعوّل دائما على منطق كهذا (“شد مشومك لا يجي ما أشوم منو”).. فعلها نظام بورقيبة، وفعلها نظام بن علي دائما.. وهناك شواهد على أن الحكومة الحالية تفعل نفس الشيء..

5- نفس هذا المنطق يحكم أيضا الجماعات والأحزاب السياسية.. مثل حركة النهضة..
توجد شواهد كثيرة على أن الوضع الحالي داخل النهضة لا ينظر إليه بحالة رضى أو تفاؤل من قبل الأعضاء وعدد من القياديين.. والجميع يتراوحون بين عدم الرضى (بنسب متفاوتة)، والتذمر والإحباط.. ولكن الخطاب الغالب حاليا داخل النهضة هو خطاب الخوف من المستقبل من المجهول.. ولذلك يحرص كثيرون على التّمسك بالوضع الرّاهن داخل الحركة، والاكتفاء بمواصلة محاولات الإصلاح الدّاخلي، فالانتخابات قادمة، وهناك مخاطر كثيرة محيقة، تستدعي تأجيل كل المطالب الإصلاحية، وهناك مؤامرات داخلية وخارجية، وسيناريو مصر ليس ببعيد، إلخ… من مبررات الخوف من المستقبل من المجهول وضرورة التضامن من أجل “حماية الجسم” و”حماية المشروع”، إلخ.

6- شخصيا، أقدّر أنه توجد بالفعل مخاطر كبيرة محدقة.. وهو أمر طبيعي جدا بعد الثورات.. وفي كل تجارب الثورات والانتقال الديمقراطي، لا مفر من أن تعيش المجتمعات فترات من الاحتقان والتنازع والتفاوض الاجتماعي الشريف وغير الشريف، والتآمر والاحتراب، إلخ..
ولكن، إلى اي حد يمكن استدعاء هذه المخاطر في أذهان الناس لتبرير قمع أو رفض أو تأجيل أي جهد إصلاحي وتطويري داخل الحركات السياسية والاجتماعية نفسها؟
ولأعطي مثالا من نقدي لحركة النهضة:
- ما دخل مخاطر الوضع السياسي العام من ضرورة تفعيل هيكلة إدارية ناجعة وفعالة؟
- ما دخل مخاطر الوضع السياسي العام من ضرورة وضع رؤية سليمة وأدوات ناجعة للإعلام المركزي أو الشباب أو التدريب والتثقيف أو التأهيل القيادي، أو الدراسات الاستراتيجية، إلخ؟

7- للرد على هذه التساؤلات، يعمد البعض إلى تقديم بعض الحجج من قبيل عدم تفرغ بعض القيادات بسبب تركيزهم على الملفات الحارقة، والوضع المتحرك والمتغير بشكل يومي.. أو من قبيل الحفاظ على التوازنات الداخلية (أنصار الحزب/الحركة، الشباب/الشيوخ، المهجر/الداخل، السياسون/الإداريون)، إلخ..
ولكن مرة أخرى يطرح التساؤل: إلى أي حد يستوجب الحفاظ على التوازنات وتفرغ القيادات للتركيز على الملفات الحارقة، تأجيل كل عمليات الإصلاح بلا استثناء؟
فهناك إصلاحات كثيرة وضرورية، ولا علاقة لها بالتوانات الداخلية.. بل في تحقيقها مصلحة عامة وعاجلة للجميع دون استثناء..
وإلي أي حد يمكن أيضا تأجيل هذه الإصلاحات بحجة عدم تفرغ القيادات؟ طالما أنهم غير متفرغين، أليس هذا دليلا على الحاجة لتوسيع عدد القياديين، وتوزيع المهام توزيعا جيدا، وتفويض بعض المهام لغيرهم، بل وتفويض بعض المهام لجهات خارجية مثل شركات الإصلاح الإداري وشركات الاتصال وغير ذلك مما يحصل في أحزاب العالم المتقدم؟

8- من الواضح جدا، في الحالة التي أتكلم عنها (أي: مقاومة الإصلاح الداخلي في النهضة)، أن “التمسك بالحاضر خوفا من المستقبل المجهول” مقولة تبريرية يستعملها بعض القياديين ممن اصطلح البعض على تسميتهم بـ”الماكينة”، فقط لضمان تحكمّهم في جسم الحزب ومساره.. وهذا الأمر يهدد وضع النهضة، ويجعلها أكثر هشاشة داخليا..

9- في كل الحالات، أعتقد أن المصلحة العامة (للنهضة نفسها، وللمشروع الإسلامي، بل ولتونس أيضا) تقتضي من عقلاء النهضة أن يتعاملوا مع الوضع الداخلي بأكثر جرأة وأكثر إصرار على التعجيل بفرض إجراءات إصلاحية، تؤدي إلى:
- ترميم الثقة الداخلية في صفوف القواعد،
- توفير هيكلة إدارية أكثر نجاعة وأكثر فاعلية
- الفصل بين المستويين السياسي والإداري في الحزب، واعتماد الكفاءة الإدارية أساسا في توزيع المناصب الحزبية..
- دعم التخطيط الاستراتيجي
- إعادة النظر في كل البرامج التثقيفية والتدريبية والتأهيل القيادي.. والاستنجاد بمؤسسات دولية متخصصة يعمل على بناء جيل سياسي وقيادي متميز وقادر على خدمة مشروع الحزب ومشروع الدولة الحديثة..
- الحسم مع الخطابات التبسيطية السائدة في كل المستويات الحزبية والتي تعطل قدرات الحزب على الانطلاق كحزب سياسي عصري، وتشده إلى الخلف..
- إعادة النظر في الجوانب الإجرائية لعملية الشورى الداخلية كي تصبح شورى حقيقية بدل أن تكون مجرد تجمّل وديكور، أو مغالطة..
- توفير أطر أكثر ذكاء وفاعلية لربط الأعضاء بعضهم ببعض، واستعادة الثقة والمصداقية بين الأعضاء فيما بينهم، وبين الأعضاء والقيادات..
- توفير إعلام داخلي سريع وناجع، لا يكتفي بمتابعة صدى الحركة في الإعلام، وعدّ المقالات والتصريحات الإيجابية والمقالات والتصريحات السلبية، وإنما يوفر لهم ورقات تقدير للموقف، والسيناريوهات المحتملة، ونبذة عن النقاشات الدائرة ومبررات الموقف السياسي.. إلخ، مما يمثل ضرورة لتدريب الأعضاء وإعلامهم..

10- أعتقد أن مصير النهضة مرتبط بمدى نشوء خطّ إصلاحي داخلي.. وإلا فسيكون الأسلم هو التمرد والاستقالة.. في كل الحالات: لا مفر من رجّة قوية داخلية للإصلاح..
أشير في النهاية، إلى أن ما ينطبق هنا على النهضة، يصلح أيضا لبقية الأحزاب والجماعات في تونس.. ومن مصلحة الجميع في تونس أن يكون لدينا أحزاب عصريّة وديمقراطيّة وذات هيكليّة إداريّة ناجعة.. وليتنافسوا بعد ذلك على إدارة الشأن العام كما يريدون.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

Aucun commentaire:

Publier un commentaire