الاستقالة السياسية أنواع.. بعضها سلبي وبعضها إيجابي، وبعضها محايد لا سلبية فيه ولا إيجابية..
من الاستقالات السلبية: تلك التي تأتي على خلفية شخصية بحثا عن الظهور أو المكانة أو احتجاجا على فقدانها، إلخ..
ومن الاستقالات المحايدة: الاستقالة لدواع صحية أو عمرية أو رغبة بالتفرغ لمهام اجتماعية وحياتية أخرى..
ومن الاستقالات الإيجابية: الاستقالة المبنية على نقد واقعي جاد (في مستوى التصور أو/و الممارسة)، والتي يعلنها المستقيل بعد فترة زمنية يقدّر أنه استنفد كل الخيارات المتاحة من أجل إبلاغ صوته النقدي والإصلاحي في الأطر الداخلية..
وحين يستنفد السياسي كل ما هو متاح له في طريق الإصلاح الداخلي، ويجد أنه محصور في إطار هيكلي يمتنع ويمنع من السماع والإنصات للأفكار المخالفة لما هو سائد، ويجد أنه يتعرض لحملة تشكيك مختلفة الأبعاد (في أفكاره أو مقترحاته أو قدراته أو كفاءته)، واتهام بمختلف الاتهامات الشخصية المزاجية، ويصل لقناعة بأن عضويته مختزلة في "الحضور والسماع والمباركة" في اللقاءات التنظيمية، وأنه مجرد "كومبارس" في مجموعة لا أثر لها ولا تأثير، مهمتها الأساسية الحضور لمنح المسئولين شعورا بالرضى عن الذات في آخر اللقاء.. حينها، تصبح الاستقالة "خيار أخلاقيا" يعبّر عن درحة عالية من "المسئولية الأخلاقية"..
للأسف الشديد، يبدو أن إسلاميي حركة النهضة ما زالوا لا يستوعبون ضرورة التمييز بين أنواع الاستقالات، ولا يستوعبون وجود بعد إيجابي في الاستقالة.. ولذلك، تراهم ينزعجون لأدنى استقالة، ويخافون من أن تتحول إلى ظاهرة، فيعتمدون على أدوات مختلفة تتراوح بين الترذيل والتخذيل:
1- ترذيل المستقيلين: وتهوينهم والحط من قدرهم، والتشكيك في نواياهم وإظهارهم بمظهر العاجزين أو المتخاذلين أو الانتهازيين أو القاصرين عن الفهم..
2- تخذيل المترددين: في داخل الحركة، الراغبين في السير على منوال المستقيلين.. من خلال التحذير واستحضار مفاهيم الصراع الوجودي، والاستقطاب الإيديولوجي/الثنائي: "التولي يوم الزحف" - البقاء شجاعة وبطولة - الاستقالة بطالة وليست رجولة - الاستقالة ضلالة.. والاستقالة خيانة.. والتعبير عن أسباب الاستقالة هو إفشاء لأسرار مؤتمن عليها.. ومخاطر الفرقة، إلخ...
أمثال هؤلاء ينسون أن البقاء في الأطر المعطّلة إضاعة للوقت والجهد..
وينسون أن البقاء في أطر "الشورى التجميلية" إهانة لعقول الأضء ولكرامتهم وحقهم في التعبير السياسي عما يمثل الجماعة السياسية..
وينسون أن البقاء في مثل هذه الأطر فيه إدامة للماكينة المتنفذة ووقوف في صف الظلم التنظيمي الداخلي..
مشكلة هذا المنطق المتفشي في صفوف النهضاويين، أنه يتناقض جوهريا مع الخطاب الإسلامي والقرآني، من حيث لا يشعرون..
جوهر الخطاب القرآني، في ما يتعلق بالعمران، قائم على مفاهيم العدل (الحق) والإحسان (الإتقان)، والمحاسبة.. وتأتي مفاهيم الصبر والرحمة كقيم وآليات داعمة ومكمّلة لمفهومي العدل والإحسان.. ولذلك جاء في سورة العصر: "وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"، بما يعني ضرورة تقديم قيمة "الحق" على قيمة "الصبر"..
مشكلة العقلية المتفشية في النهضاويين أنهم يحرصون ويكثرون من التواصي بالصبر، بينما يهملون بشكل شبه تام التواصي بالحق، أو في أفضل الحالات يجعلونه تاليا للصبر..
والأمثلة العملية من واقع ما يحصل في الهياكل التنظيمية كثيرة، لو أردت تعدادها.. ولكنني أكتفي بما أعلنت عنه في تعلق باستقالي الشخصية:
خلافي مع رئيس مكتب النهضة في كندا، والذي أدجى إلى الاستقالة، كان بالإمكان تجاوزه ببساطة وطي صفحته والاستمرار في العمل في داخل النهضة، لولا وضعية الخذلان والتهاون وتغليب منطق الصبر على منطق الحق والعدل، في جميع المستويات: في مجلس إدارة كندا، ثم في المكتب التنفيذي لكندا، ثم في رئاسة مجلس الشورى، ثم في المكتب التنفيذي المركزي، ثم في مجلس الشورى، ثم في جميع القياديين في الشورى والتنفيذي، والمكتب السياسي، ونواب النهضة في التأسيسي، ومسئولي المكاتب المركزية، وقيادة المهجر، الذين اتصلت بهم فردا فردا تقريبا، بالتلفون والإيميل من أجل التوسط بالحسنى ورفع المظلمة والمهانة التي أزعم أنني تعرضت لها..
وكنت في كل يوم تقريبا أرسال للتذكير باستعدادي لقبول أي تحيكم في الموضوع والاعتراف بالخطأ إن صدر رأي بتخطئتي في الموضوع..
ولكن لم يحصل أي نوع من الحرص على ابتغاء الحق والعدل والإنصاف.. بل كانوا في كل الحالات، يحرصون علي بالصبر ولا يحرصون في المقابل على رئيس المكتب في كندا بالتراجع عن مظلمة التجميد..
واستمر الأمر لمدة 100 كاملة (يعني: 3 أشهر ونصف)..
ومن المهازل أنهم حتى بعد كل تلك الفترة، ونشر استقالتي، واصل عدد من هؤلاء القياديين في مراسلتي وطلب العدول عن الاستقالة والصبر... مرة أخرى!!!
هذا المثال الشخصي له أمثلة مشابهة كثيرة أعرفها بالأسماء والجهات، ولن أذكرها في العلن حرصا على الإيجابية.. ولكن في المقابل، أتمنى من الإصلاحيين المخلصين الباقين داخل النهضة، وخصوصا في مجلس الشورى، أن يفتحوا تحقيقا داخليا بشأنها، وأن يتوقفوا عندها وعند أسبابها وأخطاء كل مستويات القيادة في التعاطي معها.. ومحاسبة من كان واجبُه حلّها وتخاذل عن حلها..
في غياب هذه المحاسبة الجادة وإقالة أو إبعاد المسئولين عن هذه الأخطاء التنظيمية، سيكون كلامكم عن وحدة الصف، والصبر مجرد كلام ممجوج مثير للاشمئزاز.. وأخشى أن يصبح نوعا من النفاق..
Aucun commentaire:
Publier un commentaire