2010/08/20

خطب الجمعة: مسئولية الجودة وقياس الأداء (1/7)

خلافا للمعتاد، أثيرت منذ فترة مشكلة جودة خطب الجمعة بحدّة ووضوح في بعض المساجد الكندية، بعد أن كان الأمر من المواضيع المسكوت عنها، أو "التابو الديني" (Tabou religieux) بسبب التهيّب من السياق التعبدي، وخشية الفتنة، ونظرا للدور الديني الرمزي الذي يتمتع به الخطيب، بما يضفي عليه درجة من الحصانة تمنع من توجيه النقد له.

ففي السابق، كان النقد الموجه لخطب الجمعة، في المرات النادرة التي تم فيها توجيه النقد المباشر لخطباء الجمعة، يكتفي بالتعبير عن الضيق بسبب طول الخطب وتجاوز الوقت المخصص لها، خصوصا في المساجد التي يرتادها الموظفون، في واقعٍ كندي لا يشكّل فيه يوم الجمعة يومَ إجازة، مما يضطر بعض المصلّين إلى التأخير في العودة إلى عملهم.. أما بقية أنواع النقد، فكان غالبا ما يتم كظمها في حينه، تجنّبًا لردود الفعل التي لم تتعود على ذلك.. ويلجأ البعض، تنفيسًا عن هذا الضيق وفي غياب الجرأة على إعلانه، لطرح النقد في سياق التندر أو في إطار المسامرات الخاصة بين الأصدقاء.

ويبدو أن النقد العلني المفاجئ الذي صدر في الفترة الأخيرة أحدث ما يشبه الصدمة، نظرا لصدوره في أحد المساجد بمدينة أوتاوا-جاتينو أمام الملأ، قبيل انتهاء الخطيب من خطبته، حين طلب أحد المصلّين، بصوت مرتفع، من الخطيب أن يوجز في خطبته، مما أحدث مفاجأة لعدد كبير من مرتادي المسجد، وجعل البعض يصف الحدث بأنه "فتنة" ما كان يجوز ارتكابها، لما في ذلك من إساءة وإحراج للخطيب، وعدم تقدير لهيبة المسجد ووقاره، وتجاوز لإدارة المسجد.

وبصرف النظر عن صوابية الفعل في حد ذاته (أي: موقف المطالبة العلنية للخطيب بالإيجاز، أثناء إلقائه لخطبة الجمعة)، -والتي يمكن الاختلاف حولها وحول أفضلية كظم المصلّي لغيظه ثم التوجه للخطيب بعد الصلاة لتوجيه العتاب إليه (1)-، بصرف النظر عن هذا الأمر، يبدو من الضروري أن نستفيد من هذه الحادثة لطرح موضوع "جودة الخطب الجمعية وقياس أداء الخطباء" بشكل أكثر جدية، عوض اعتماد أسلوب النعامة التي تدس رأسها في الأرض خشية مواجهة ما يضايقها أو يحرجها.

وإذا اتفقنا على أهمية تجنب ما قد يحدث الفتنة في المسجد، فإن من العدل تجاه الآخر والصدق مع الذات أن نتفق على تحديد المسئوليات عن احتمالات الفتنة، ومن الفاتن والمفتون: هل الفاتن هو المصلّي الذي يعبّر عن ضيقه؟ أم الخطيب الذي أخطأ في أدائه؟ أم إدارة المسجد التي لم تتخذ إجراءات لضمان الأداء الجيد للخطباء؟

ولذلك فإن أول ما يستدعيه الطرح الجدي لجودة خطب الجمعة هو تحديد المسئوليات بوضوح، حتى لا يتكرر ما حدث، بعيدا عن الشخصنة وتصوير الأمر على أنه اختلاف أذواق وتنافر طباع.

وفي هذا الإطار، تأتي هذه السلسلة من المقالات التي تقترح إطارا عمليا لتطوير أداء خطبة الجمعة في سياق الجاليات المسلمة في الغرب، والاستفادة منها في بناء جالية مسلمة متماسكة وقوية وفاعلة. وسنتعرض في هذه السلسلة، بإذن الله، للنقاط التالية:

1- مدخل: وظيفة خطبة الجمعة
2- الأخطاء العشرة في خطب الجمعة
3- ما المقصود بجودة خطبة الجمعة؟
4- كيف نقيس الأداء في خطبة الجمعة؟
5- معايير الخطبة الجيدة
6- تحديد المسئوليات: الخطيب / إدارة المسجد / جمهور المصلّين

محمد بن جماعة
(يتبع...)

الهامش:
1- مبدأ الاعتراض على الخطيب بأي وجه من الوجوه ليس ممنوعا، من الناحية الفقهية، ولا يمثل "فتنة" في كل الحالات. فيجوز الردّ على الخطيب ما لم يؤدِّ ذلك إلى حدوث فتنة أو منكر أشدّ في المسجد، فحينئذ يؤجّل الإنكار إلى ما بعد الخطبة فيقوم ويبيّن.. وإذا قال الخطيب كلاما باطلا لم يجب الإنصات له.. وقد ثبت أنّ بعض الصحابة، في عهد معاوية، كانوا يتكلمون عندما كان الحجّاج الظالم يلعن علي بن أبي طالب على المنبر ويقولون: "إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا".. وليس هناك مانع من تصحيح خطأ أو وضعٍ وقع فيه الخطيب أو مطالبة بالإيجاز، سواء أكان ذلك بالكلام أو التصفيق أو غيرهما، بشرط ألا يترتب عليه لغط أو تشويش يتنافى مع جلال الموقف، فإن استجاب فبها، وإلا فلا يجوز الإلحاح فى التنبيه فقد يكون لذلك رد فعل سيّء بأي وجه.

وقد اختلفت المذاهب الفقهية في تقدير حكم الكلام أثناء الخطبة:
- فكرّه أبو حنيفة الكلام كراهةَ تحريمٍ، من وقت خروج الإمام من خلوته حتى يفرغ من الخُطبة، وقال: "لا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ حَصَلَ مِنْهُ لَغْوٌ بِذِكْرِ الظَّلَمَةِ".
- بينما أجاز المالكية ذلك إن حصل من الخطيب ما لا يجوز، كمَدحِ من لا يستحق المدح، وذمِّ مَنْ لا يجوز ذَمه.
- أما الحنابلة فقد حرّموا أيَّ كلام حتى لو كان الخطيب غير عَدلٍ. ويأتي رأيهم الفقهي هذا متسقا مع مبدئهم العام في مفهوم طاعة ولي الأمر، وطاعة الإمام، وعدم الرد عليه أمام الملأ، ومبدأ النصح في السر، واعتبار أي معارضة علنية مدعاةً للفتنة.
وإذا نظرنا إلى واقع السيرة النبوية وتاريخ الصحابة، فسنعثر على كثير من الشواهد على جواز اعتراض المصلّين على الخطيب:
- فقد اعترضت امرأة على عمر بن الخطاب في إحدى خطبه وهو ينهى عن المغالاة في المهور..
- وفي خطبة أخرى، اعترض سلمان الفارسي على عمر بن الخطاب قائلا: "وَاللَّهِ لاَ سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَلاَ أَطَعْنَا أَمْرَكَ"، عندما قال لهم: "اسْمَعُوا قَوْلِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي"..
- وصحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع خُطْبَته إذا وُجِّه إليه سؤالٌ من أحد الحاضرين، فيجيبه إلى خُطْبته فيتمها.. ففي الحديث المتفق عليه أن رجلاً طلب منه وهو يخطب الجمعة أن يدعو الله ليُنزل عليهم المطر، فقطع النبي (صلى الله عليه وسلم) موضع خطبته، ودعا، فنزل المطرُ مِدْرَارًا واستمر أسبوعًا.. فجاء رجل في الجمعة المُقْبِلة وسأله وهو يخْطُب الجمعة أن يدعو الله ليُمسك المطرَ حِفاظًا على الأموال من التلف، فدعا قائلاً: اللهُمَّ حَوالَيْنَا ولا عَلَيْنَا.. يقول الشوكاني: "فِي الْحَدِيثُ: جَوَازُ مُكَالَمَةِ الْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ"..
- وصحَّ أيضا أن عمر بن الخطاب اعترض على تَأَخُّر بعض الحاضرين إلى الجمعة (رواه مسلم، ج 6 ص 130 وما بعدها)..
- إلى غير ذلك من الحوادث...

ومن هنا لا نجد مانعًا من تصحيح خطأ حَدَثَ من الخطيب، في آية أو حديث أو موقف، أو إذا أطال الخطيب خطبته، إذا كان الْمُصَحِّح واثقًا من ذلك، على أن يكون بأسلوب حكيم لا يُحْدِثُ لَغَطًا وَلا تَشْويشًا، وأن يَغْلِب عَلَى الظَّن أن الخطيب يسمع ويستجيب. فإن لم يَسْتَجِبْ فَلا يَجوز الإلحاح في التصحيح، فلعله لم يسمع، وقد يكون فيه ردُّ فعل سَيء بأي وجه يكون (انظر فتاوى الشيخ عطية صقر: موسوعة فتاوى الأزهر (9/65) مايو 1997).

Aucun commentaire:

Publier un commentaire