1. كان النبي (ص) يربّي المجتمع الإسلامي الأول على التضامن وتكريس الأخوة، قائلا: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمِهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى" (البخاري).. ولم يكن الصحابة يحرصون على استعمال لفظ الأخ كلما تخاطبوا فيما بينهم، لأنهم كانوا مشغولين بتحقيق معاني الأخوة في سلوكهم وتعاهدها بصدق في مشاعرهم..
أما نحن فأصبحنا نكتفي من الأخوة كلمتها، وتكاسلنا في إقامة معناها.. ولذلك أصبحت تجد الجميع يخاطب الآخرين: (يا أخي)، و(يا أخي في الله)، و(يا أخي الحبيب)، ولا يتورع عن غيبته وسبه والاستهزاء به في السر والعلن.
وتجد من يبتسم ويبشّ في وجهك، ويصافحك بيده القوية مصافحةً تكاد تخلع أصابع يدك، ظنا منك أنها دليل مشاعر الأخوة التي يكنها لك.. ثم تكشف لك الأيام خبايا الأنفس وما تخفي الصدور من مشاعر الضيق والتبرم والحسد والكره تجاهك.
* * * * * *
2. كان النبي (ص)، يعلم أصحابه: "لأَنْ أمشي مع أخ في حاجة، أحبّ إليَّ مِن أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا".
كان النبي (ص) يعلمهم أن حقيقة الأخوة تجعل من همّ الفرد همّا محمولا من الجماعة وليس من الفرد فقط. وأن ما يسوء شخصا يسوء الجميع، وما يحزن الفرد يحزن الجميع، وما يؤلم الفرد يؤلم الجميع.
وكان يعلمهم أن خدمة الآخرين ومساندتهم عند الحاجة، عبادةٌ عمليةٌ أفضل وأعظم أجرا من عبادة النوافل والأعمال الفردية التي يعود نفعها على الشخص لذاته ولا يعود نفعها على الآخرين.
أما نحن، فقد تبلدت أحاسيسنا تجاه الآخرين، مع الاحتفاظ ببعض شكليات العلاقة التي لا تكلف جهدا ولا عناء، والتي تسمح لنا بتلميع الصورة أمام الناس، ونستعملها للتبرير عند الضرورة، إن وجه إلينا اللوم يوما ما.
أصبح التزام المسجد أقصى ما يحرص عليه الواحد منا.. وأما هموم الناس وحقوقهم فلتذهب مع الوقت.. سيبقون مهمومين بضعة أيام ثم ينسون..
* * * * * *
3. كان الرسول (ص) يحث صحابته على هذه الاخلاق، وكان يفاضل بينهم بحسب نفعهم للناس ويقول عنهم: "أفضلهم عنده أعمهم نصيحةً.. وأعظمهم عنده منزلةً، أحسنهم مؤاساة ومؤازرة ".. وكان يربيهم على التزام الجماعة والعمل على تقويتها وتقديم مصلحتها على المصلحة الفردية..
أما نحن، فقد أصبح مقياس التفاضل لدينا هو حفظ القرآن والمداومة على الصلوات في المسجد، حتى وإن كلف ذلك الإغراق في التفاصيل واستهلاك الوقت والجهد، بدون أن ننهض للتواصل مع الآخرين لمعرفة همومهم ومشاكلهم..
* * * * * *
4. كان النبي (ص) إذا غاب أحد الصحابة يومين متتابعين، سأل إن كان مريضا أو له هموم منعته عن الحضور.. وكان يفعل ذلك مع جميع الصحابة، كبيرهم وصغيرهم، قريبهم وبعيدهم.
أما نحن، فإن غاب أحدنا لم يفتقد، وإن افتقد اتهم بالضعف والتهاون في أداء الفرائض.
* * * * * *
5. القرآن الذي نتلوه صباح مساء يخاطبنا جميعا: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم". وهذه الآية صيغة أمر، تؤكد على قدسية الأخوة الإيمانية وأن لا مجال للتهاون في مقتضياتها، وأن الإخلال بأي مقتضى من مقتضياتها من أعظم الحرام. وتؤكد الآية على وجوب المبادرة للإصلاح بين الناس حين يختلفون. وإلا فالجميع آثمون.
أما نحن، فترى البعض يرى إخوانه يظلم احدهم الآخر، ويغتاب أحدهم الآخر، ويحقر أحدهم الآخر، ثم لا يجد في نفسه أي شعور بالواجب، أو أي حاجة للتدخل بالحسنى، أو ضرورة للإصلاح بين الناس.
* * * * * *
6. حين صاغ النبي (ص) دستور المدينة المؤسس للمجتمع المسلم، كتب فيه من جملة الوصايا والقوانين التي يتوجب على كل مسلم الالتزام بها دون تهاون أو غفلة: "وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ (أي مُثْقَلاً بالديون) أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ. - وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ (أي طلب عَطِيَّةً من دونِ حقٍّ) أَوْ إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. - وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ".
أما نحن، فترى أحدنا يسمع صاحبه يغتاب الآخر، فيضحك في وجهه مسرورا، وفي بعض الأحيان مصدّقا وموافقا ومؤيدا. ثم ترانا نتزاحم بالمناكب على الصف الأول في الصلاة. ثم لا نجد في أنسفنا حرجا من ذلك، بل نغلفه أحيانا بالحرص على الإسلام والمسجد، ونبحث عن التبريرات التي تجعل من فعلنا أمروا طبيعيا بل ضرورة دينية، عوض الاعتراف بحقيقة كونها غيبة أو نميمة أو بهتانا.
أليست هذه من مظاهر النفاق الاجتماعي التي تمارس في محيطنا المتدين؟
وأتساءل بصدق: هل نحن فعلا متدينون حق التدين؟
Aucun commentaire:
Publier un commentaire